أوبرا "دون جيوفاني"... عندما تعشق الذات نهايتها

31 يناير 2018
+ الخط -
مع أن ثمة شعوراً بعدم القدرة على تقديم شيء جديد يجتاح المرء بينما ينوي التطرق لأوبرا دون جيوفاني- للموسيقي الكلاسيكي النمساوي الشهير فولفانغ أماديوس موتسارت (1756-1791)، وكتابة الأغاني لـ لورنزو دا بونتي. وذلك لكثرة ما حكي عنها سابقا.
ومع ذلك ثمة إغراء خاص في الحديث عما يمكن أن يصلنا من الجوهر النفساني المتشعب لزير النساء الثري دون جيوفاني عبر انغماسه في عالم اللذة وسعيه إلى الحصول عليها بكافة الأساليب، في حين تبدو فكرة جعل جيوفاني بالنسبة لما يكتب عنه رمزاً للشر المطلق، ربما مبالغاً فيها، إذ بالمحصلة هو أرستقراطي ماجن يفخر بمغامراته الحسية الجنسية حتى لو دفع الآخرون حياتهم ثمنا لهذه المغامرات. وفي هذه النقطة بالذات يكمن الجانب الشرير لشخصية الدون. لكنه بالمقابل شخص مقدام تتملكه رغبة لا تقاوم بالتحدي، مثلما يعرضه المشهد الأخير رفقة موسيقى موتسارتية تكتنز مزيجا من الجمال والرعب والحزن في آن معا.

إن طريقة جيوفاني الغرائزية المخادعة في الحصول على النساء تحمل صبغة أطباع نادرة بالنسبة لأناس ذلك الزمن، في التعبير عن الرغبات وخرق المفاهيم الأخلاقية للمنطق المجتمعي في كل زمن، وبالأخص تلك المتعلقة بالنساء، ولكن عزيمته وعدم اكتراثه للموت وما سيحل به جراء استهزائه بالغضب المتمثل بنصب تمثال الكومنداتور ذي الدلالة الروحية يعتبران أيضا سلوكاً صادماً وشجاعاً غير دارج لشعوب ذلك العصر.

إن الصراع والازدواجية في شخصية جيوفاني بين الخير والشر هما نفسهما في نفس كل إنسان بين رغبته بالإفراج عن طاقته الكامنة بما تحمل من تشوهات وغرائز من جهة، وبين ما تكنّه من إرهاصات إيجابية من جهة أخرى، والفرق بينه وبين سلوك إنسان آخر هو أنه عبّر عن هذه الخروقات النفسية بشكل واضح وجلي، من أجل ذلك فإنه يحاكم بالمحصلة بشكل علني وحاسم بوصفه غريباً وجائراً.

إذا ما أسقطنا سعي جيوفاني خلف النساء على واقعنا المعاصر، باستثناء حادثة قتله أثناء المبارزة لوالد الفتاة الذي حاول منعه من التقرب لابنته وهذا بالتأكيد فعل فظيع، سنجد أن أي شاب في هذا العصر لديه شيء من الجاذبية ومستوى من المكر والخديعة وهذا دارج هذه الأيام، ربما يفعل ما فعله جيوفاني، بل وأكثر من ذلك فيما يتعلق بموضوع النساء، ردا على طرح متداول يفيد بأن جيوفاني رمز للشر المطلق.

العمل عموما يطرح صراعا موسيقيا سحريا بين الأخلاقي واللاأخلاقي، في واحدة من روائع الموسيقى الكلاسيكية.

في أوبرا "دون جيوفاني" لا يتحدث العمل فقط عن الصراع التقليدي بين مفهومي الخير والشر عبر الدافع الأنثوي الذي يؤدي دورا جوهريا في الأوبرا، بل في حالة جيوفاني تعشق الذات نهايتها! وبمعاقبتها على تلك الشاكلة عثر جيوفاني على خلاصه الفردي عبر تحقيق العدالة لجوهر رغبتها.
42BBA522-1BE8-4B0B-9E9A-074B55E2BCB4
معتز نادر

كاتب صحافي وشاعر.يقول: من المخزي أن ينسف طارئ نفسي أو عقلي معين كل ما أنجزته تجربة الذاكرة عبر سنواتها الطويلة.. إن هذا يؤدي إلى الحديث عن الموهبة الممزوجة بالصدق والنقاء، إذ برأيي ستكون أقصى ما يمكن أن يصل إليه المرء من كفاءة وروعة.وليس ثمة قضية أهم من مواجهة الإنسان لوحدته.. إن هذا العالم نهض على الأغلب من أشياء تافهة وغير ملفتة، وهذا ما يمنح الإغراء للبحث عن حياة نقية وأكثر نضارة.

مدونات أخرى