16 نوفمبر 2024
أوباما.. تمكين إيران و"تعظيم" إسرائيل
لم يكن مستغرباً أن يُبرم الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الموشك على الانصراف، اتفاقاً مع تل أبيب، وصفه الإسرائيليون بأنه اتفاق تاريخي، ذلك أن أوباما استثنى علاقة إدارته مع تل أبيب من أية مراجعةٍ من أي نوع. وقد تصرّف، في هذا الخصوص، كبقية أسلافه الجمهوريين والديمقراطيين، على الرغم من أنه أقر، في مطلع ولايته الأولى، باحتلالٍ تنفذه الدولة العبرية. وما جرى التعارف عليه بأنه نفورٌ شخصيٌّ لديه من بنيامين نتنياهو لم يمنعه من أن يقدم للأخير هذه الهدية الاستراتيجية، المتمثلة بتقديم حزمة معونات على مدى عشر سنوات، قيمتها 38 مليار دولار. ليست هدية شخصية أو سياسية لنتنياهو، لكنها مُنحت لدولة الاحتلال في عهد نتنياهو، ومن حق هذا الادعاء بأن تعامله الخشن مع أوباما قد أثمر نتيجة طيبة!. أما علاقات أول رئيس أميركي من أصل إفريقي مع الجانب الفلسطيني فلم تتّسم لا بالنفور ولا بالود، إذ لم يقم الرجل علاقةً تُذكر مع هذا الجانب، واكتفى بتصويت إدارته ضد منح فلسطين عضوية مراقب في الأمم المتحدة، وبرفض المبادرة الفرنسية، أخيراً، وكل مبادرة دولية أو جهد دولي، للتحرّك نحو تسويةٍ جدية، مع تجويف عمل الإدارة الرباعية الدولية، وذلك جرياً على نهج الإدارة الديمقراطية في تفادي إزعاج اليمين الأشدّ تطرفاً في تل ابيب واللوبي المؤيد له في أميركا، وبالذات في الكونغرس بمجلسيه.
وهكذا، بينما أهدى أوباما إسرائيل الاتفاق "التاريخي"، أخيراً، علاوة على التعاون العسكري، بمختلف مستوياته، على مدى السنوات الثماني الماضية، فقد أهدى الفلسطينيين كلاماً، تمثل في خطابه الشهير في جامعة القاهرة، وتبعه بموقف سياسي ضد استمرار الاستيطان، ولم يلبث أن طوى هذا الرفض الذي دام نحو سنة إبّان تولي هيلاري كلينتون المرشحة الحالية للرئاسة وزارة الخارجية.
ومن الواضح أن نزعة أوباما غير الصدامية قد أدّت دورا في تقهقر موقفه النقدي من دولة الاحتلال، من دون أن يكون ذلك، بالطبع، العامل الوحيد في تراجع أوباما، فالارتباط بالصهيونية عميق الجذور في التربة السياسية والثقافية والإعلامية الأميركية، وتسنده شبكة
مصالح لمصانع الأسلحة والمعدات العسكرية، مع أن الدولة الصهيونية تطورت في مجال التصنيع الحربي (طائرات الاستطلاع بدون طيارين ومصانع إنتاج الذخيرة على سبيل المثال)، علاوة على نفوذ كبار رجال الأعمال من الأميركيين اليهود وغير اليهود من الموالين للصهيونية، والذين يعتبرون التطرّف الصهيوني بمثابة زيادة في تبلور الصفاء الصهيوني، وليس مجرّد جنوح أيديولوجي أو سياسي، فضلاً عن نفوذ كنائس إنجيلية، ازداد بعد أن قابله تطرّف مفرط، تمثل في صعود "داعش"، ثم في زيادة القدرات العسكرية الإيرانية.
ومن المفارقة، بخصوص العامل الإيراني، أن أوباما جنح إلى التعايش مع الصعود الإيراني، باستثناء الجانب النووي منه، وذلك تحت الضغط الصهيوني الذي كان يسعى إلى مواجهةٍ عسكرية مع طهران، حيث لم يكن شخصٌ، مثل نتنياهو، يكتم نزعته الحربية. لم يكن الاتفاق النووي مع أميركا والغرب هو الذي ألجم خيار المواجهة العسكرية، بل تعلق الأمر بخيارات الدولة الإيرانية، حيث تبدى للغرب أن مدار الاهتمام الإيراني يتركّز على بسط النفوذ في العالم العربي والإسلامي، وليس مواجهة تل أبيب بأية صورة (ما يفسّر توقف حزب الله عن الاحتكاك بإسرائيل منذ عشر سنوات). والإدراك الصهيوني والأميركي بأنه يمكن لطهران وأذرعها في الشرق الأوسط ان تؤدي دوراً في الحرب ضد "داعش" إلى جانب دول المنطقة، وليس بالتعاون مع هذه الدول. وتلعب إيران بالفعل هذا الدور في العراق ضد "داعش"، وإن كانت خصومتها تشمل المكون السني العراقي في عمومه، فيما الثمن، أو المكافأة التي خصصتها طهران لنفسها، في مقابل خوض الحرب على "داعش" هو التمتع بسيطرةٍ شبه تامة على مفاصل الدولة العراقية، ولو أدى الأمر إلى استهداف زعاماتٍ شيعيةٍ، لا تنظر بعين الرضى للنفوذ الإيراني الذي يهدّد، بالتقويض الفعلي، ما تبقى من سيادة الدولة العراقية واستقلالها.
وبينما كان السياسيون العراقيون الحاكمون يسعون، من قبل، إلى المواءمة بين علاقاتهم بكل من واشنطن وطهران، تغيّر الوضع، وأصبحت علاقة التبعية لإيران تحتل المرتبة الأولى في أجنداتهم. حدث ذلك في عهد أوباما، وفي ظل اعتناق عقيدته الداعية إلى عدم التورّط الأميركي المباشر في أزمات المنطقة والعالم، فكان أن نجحت طهران في ملء "الفراغ" الأميركي، وكان المأمول أن يملأ العراقيون أنفسهم هذا الفراغ، وأن يبنوا دولتهم الوطنية المستقلة دولة عموم العراقيين. لكن الزعماء الذين يرون أن ارتباطهم المذهبي بطهران يتقدّم على دواعي القرار الوطني المستقل، وعلى ارتباطهم بمختلف مكونات شعبهم، شقوا الطريق نحو التضحية بالرابطة الوطنية، وتهتيك النسيج الاجتماعي، وإيلاء الرعاية لـ 73 مليشيا طائفية (تشكل حاليا "الحشد الشعبي") على حساب الجيش الوطني العراقي... وذلك كله باسم الحرب على الإرهاب. وهي عبارةٌ يطرب لها أوباما وأركان إدارته، بصرف النظر عن السياق السياسي والاجتماعي لهذه الحرب التي لا تقتصر على مكافحة "داعش"، ومؤدّاها الفعلي في صياغة مستقبل العراق والعراقيين.
يحدث شيء مشابه في سورية، فالإدارة الأميركية تصرّ على غض النظر عن المليشيات
الطائفية التي تتبع إيران، وتخوض حرباً طائفية، وذات منحى عنصري ضد السوريين. وعلى الرغم من أن هذه المليشيات لا تخوض حرباً ضد "داعش" في هذا البلد، بل ضد المدنيين والمعارضة الوطنية، إلا أن أركان إدارة أوباما يرون في وجود هؤلاء ترجيحاً للكفة العسكرية ضد داعش، بما في ذلك حزب الله الذي تصنفه واشنطن إرهابياً، لكن الاتفاق مع موسكو لا يشمل خروج هذه المليشيات من سورية. وبهذا، أسهمت واشنطن في سياستها قصيرة النظر وغير النزيهة، إلى جانب موسكو، في إضفاء مزيد من التعقيد على الأزمة السورية. وواقع الأمر أن الاتفاق مع موسكو لا يفتح آفاقاً سوى إلى مزيدٍ من المواجهات في البلد، وحيث لم يتورع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن عدم تحديد أي موعد تقريبي، لاستئناف المفاوضات السورية، إرضاء لموسكو التي لا خيار لها سوى الحل العسكري في هذا البلد، دعماً للنظام في مواجهة شعبه المثخن بالجراح.
يستعد أوباما لمغادرة البيت الأبيض، وقد منح مزيداً من النفوذ لطهران وموسكو، وترك للأوروبيين الجرح الأوكراني، وتشجع حاكم كوريا الشمالية للذهاب بعيدا في تجاربه النووية، فيما الصين لا تجد ما تخاطب به الشعوب سوى مواجهة النفوذ الأميركي، من دون أن تقف مع أي شعبٍ لنيل حريته وكرامته. وقد جعل العداء الأيديولوجي لأميركا بكين، أخيراً، تحذّر من اتخاذ أي إجراء انفرادي ضد بيونغ يانغ، بل في إطار الأمم المتحدة، وهو موقف مبدئي صحيح، وإن كان يمكن أن تستخدمه بكين ذريعةً لإدامة الشلل في مواجهة النزعة الحربية الجنونية في كوريا الشمالية.
لا يهم ماذا يحدث في العالم، باستثناء المحافظة على توازناتٍ عسكريةٍ استراتيجيةٍ، هنا وهناك، مع موسكو وبكين،.. المهم أن تكون إسرائيل بخير، وكما يفهم متطرّفوها الحاكمون هذا الخير، وأن تبقى مطامحها وأطماعها بغير حدود. هذا ما انتهت إليه عقيدة أوباما.
وهكذا، بينما أهدى أوباما إسرائيل الاتفاق "التاريخي"، أخيراً، علاوة على التعاون العسكري، بمختلف مستوياته، على مدى السنوات الثماني الماضية، فقد أهدى الفلسطينيين كلاماً، تمثل في خطابه الشهير في جامعة القاهرة، وتبعه بموقف سياسي ضد استمرار الاستيطان، ولم يلبث أن طوى هذا الرفض الذي دام نحو سنة إبّان تولي هيلاري كلينتون المرشحة الحالية للرئاسة وزارة الخارجية.
ومن الواضح أن نزعة أوباما غير الصدامية قد أدّت دورا في تقهقر موقفه النقدي من دولة الاحتلال، من دون أن يكون ذلك، بالطبع، العامل الوحيد في تراجع أوباما، فالارتباط بالصهيونية عميق الجذور في التربة السياسية والثقافية والإعلامية الأميركية، وتسنده شبكة
ومن المفارقة، بخصوص العامل الإيراني، أن أوباما جنح إلى التعايش مع الصعود الإيراني، باستثناء الجانب النووي منه، وذلك تحت الضغط الصهيوني الذي كان يسعى إلى مواجهةٍ عسكرية مع طهران، حيث لم يكن شخصٌ، مثل نتنياهو، يكتم نزعته الحربية. لم يكن الاتفاق النووي مع أميركا والغرب هو الذي ألجم خيار المواجهة العسكرية، بل تعلق الأمر بخيارات الدولة الإيرانية، حيث تبدى للغرب أن مدار الاهتمام الإيراني يتركّز على بسط النفوذ في العالم العربي والإسلامي، وليس مواجهة تل أبيب بأية صورة (ما يفسّر توقف حزب الله عن الاحتكاك بإسرائيل منذ عشر سنوات). والإدراك الصهيوني والأميركي بأنه يمكن لطهران وأذرعها في الشرق الأوسط ان تؤدي دوراً في الحرب ضد "داعش" إلى جانب دول المنطقة، وليس بالتعاون مع هذه الدول. وتلعب إيران بالفعل هذا الدور في العراق ضد "داعش"، وإن كانت خصومتها تشمل المكون السني العراقي في عمومه، فيما الثمن، أو المكافأة التي خصصتها طهران لنفسها، في مقابل خوض الحرب على "داعش" هو التمتع بسيطرةٍ شبه تامة على مفاصل الدولة العراقية، ولو أدى الأمر إلى استهداف زعاماتٍ شيعيةٍ، لا تنظر بعين الرضى للنفوذ الإيراني الذي يهدّد، بالتقويض الفعلي، ما تبقى من سيادة الدولة العراقية واستقلالها.
وبينما كان السياسيون العراقيون الحاكمون يسعون، من قبل، إلى المواءمة بين علاقاتهم بكل من واشنطن وطهران، تغيّر الوضع، وأصبحت علاقة التبعية لإيران تحتل المرتبة الأولى في أجنداتهم. حدث ذلك في عهد أوباما، وفي ظل اعتناق عقيدته الداعية إلى عدم التورّط الأميركي المباشر في أزمات المنطقة والعالم، فكان أن نجحت طهران في ملء "الفراغ" الأميركي، وكان المأمول أن يملأ العراقيون أنفسهم هذا الفراغ، وأن يبنوا دولتهم الوطنية المستقلة دولة عموم العراقيين. لكن الزعماء الذين يرون أن ارتباطهم المذهبي بطهران يتقدّم على دواعي القرار الوطني المستقل، وعلى ارتباطهم بمختلف مكونات شعبهم، شقوا الطريق نحو التضحية بالرابطة الوطنية، وتهتيك النسيج الاجتماعي، وإيلاء الرعاية لـ 73 مليشيا طائفية (تشكل حاليا "الحشد الشعبي") على حساب الجيش الوطني العراقي... وذلك كله باسم الحرب على الإرهاب. وهي عبارةٌ يطرب لها أوباما وأركان إدارته، بصرف النظر عن السياق السياسي والاجتماعي لهذه الحرب التي لا تقتصر على مكافحة "داعش"، ومؤدّاها الفعلي في صياغة مستقبل العراق والعراقيين.
يحدث شيء مشابه في سورية، فالإدارة الأميركية تصرّ على غض النظر عن المليشيات
يستعد أوباما لمغادرة البيت الأبيض، وقد منح مزيداً من النفوذ لطهران وموسكو، وترك للأوروبيين الجرح الأوكراني، وتشجع حاكم كوريا الشمالية للذهاب بعيدا في تجاربه النووية، فيما الصين لا تجد ما تخاطب به الشعوب سوى مواجهة النفوذ الأميركي، من دون أن تقف مع أي شعبٍ لنيل حريته وكرامته. وقد جعل العداء الأيديولوجي لأميركا بكين، أخيراً، تحذّر من اتخاذ أي إجراء انفرادي ضد بيونغ يانغ، بل في إطار الأمم المتحدة، وهو موقف مبدئي صحيح، وإن كان يمكن أن تستخدمه بكين ذريعةً لإدامة الشلل في مواجهة النزعة الحربية الجنونية في كوريا الشمالية.
لا يهم ماذا يحدث في العالم، باستثناء المحافظة على توازناتٍ عسكريةٍ استراتيجيةٍ، هنا وهناك، مع موسكو وبكين،.. المهم أن تكون إسرائيل بخير، وكما يفهم متطرّفوها الحاكمون هذا الخير، وأن تبقى مطامحها وأطماعها بغير حدود. هذا ما انتهت إليه عقيدة أوباما.