أكثر من ثمانية أشهر مرّت على سقوط براميل متفجرة على حي السكري في حلب الذي تقطنه عائلة أبو خليل. يقول الرجل إنّ عدداً من أصدقائه أصيب من جرائها، فيما قتلت صديقة ابنته الوحيدة. وبينما تضرر الطابق الذي يعلو شقته بشكل كبير، اقتلع ضغط الانفجارات وشظاياها جميع النوافذ في شقة أبو خليل، وظهرت في جدرانها الصدوع والشقوق.
لم تغادر العائلة رغم ذلك، إلاّ أنّ حدثاً مفاجئاً جعلهم يندمون. يقول الرجل: "فيما كنّا نائمين، ومن دون أن يحدث أي انفجار، سقط نصف سقف الغرفة التي كانت تنام فيها ابنتي، فأصيبت في عمودها الفقري، وبشلل في ساقها اليسرى".
كثيرة هي العائلات التي أصرّت على البقاء في أبنية متضررة أو شبه مدمرة، في سورية. وعن ذلك، يقول الناشط في العمل الإغاثي، غياث قيسي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "عشرات العائلات ما زالت تعيش داخل المباني المدمرة بشكل جزئي أو الصامدة ظاهرياً. وتنتشر هذه الظاهرة بشكل واسع في أحياء مدينتي حلب وحمص وهما أكبر المدن السورية التي طالها الدمار". ويضيف: "نجا سكان هذه المباني من عمليات القصف التي طالت مساكنهم. وهم يظنون أنهم في أمان الآن، إلا أنهم محاطون بمخاطر الانهيارات المحتملة التي لا يعلمون عنها شيئاً".
ويوضح قيسي أنَّ "الدمار والتهجير اللذين تسببت بهما عمليات القصف المتواصل لقوات النظام، أنتجا أزمة سكن عامة في سورية. وهو ما دفع بالكثير من العائلات السورية للبقاء داخل المباني المتضررة وأحياناً النزوح إليها". ويتابع: "اهتمت المنظمات السياسية والإغاثية ووسائل الإعلام في تقدير الخسائر وإظهار حجم الدمار، ولم يتنبه معظمهم إلى ما بقي صامداً. ولم يحاول أحد التأكد من حالة المباني الصامدة وأهليتها للسكن". ويضيف: "لو حظي سكان هذه المباني بشيء من الدعم أو الاهتمام لما بقوا فيها". وفي هذا الإطار، يشدد قيسي على "أهمية حملات التوعية والإرشاد وتقديم الدعم التقني بدلاً من التركيز على الاحتياجات فقط، فمن شأن ذلك أن يرفع قدرة الناس على حماية أنفسهم وتلبية احتياجاتهم".
من جهته، يشير المهندس المدني، رامي اليونس، إلى "وجود نوعين من المباني التي تشكل خطراً على سكانها. الأولى التي تضرر جزء منها بشكل مباشر بعملية القصف أو التفجير، والثانية المتواجدة في المناطق التي طالها قصف متواصل ولم تتعرض لأذى مباشر". ويضيف: "معظم المباني المتضررة التي بقي فيها بعض سكانها لم تتعرض لانهيارات كبيرة، إنما أصابتها أضرار، كالتشققات والكسور، وأخطرها تلك التي طالت فيها الكسور الأعمدة أو الجسور أو الأسقف. إلا أنّ السكان لا يملكون القدرة على تمييز هذه الأضرار".
ويشدد اليونس على "أهمية استعانة الأهالي بمهندس، خصوصاً عندما تقرر العائلة البقاء في هذا النوع من المباني، وذلك ليقوم بتحديد مدى تعرّض العنصر الانشائي للمبنى لإجهادات شاذة تفوق قدرة تحمّله للتشققات الحاصلة أو لإجهادات ضاغطة تزيد على قدرة تحمّله للتكسرات. بالإضافة إلى قياس تعرض حواف العناصر الإنشائية للصدأ أو تآكل قضبان التسليح. وبالمجمل تقييم وجود مخاطر على المبنى والحاجة لتدعيمه من عدمها".
في السياق نفسه، يلفت المهندس البيئي، عبد قادري، إلى أنّ العمر الافتراضي للمباني التي تعرض محيطها للقصف أو التفجير يتناقص. ويفسر ذلك بأنّ "عمليات القصف المتكررة التي تضرب المنطقة تولّد اهتزازات تضرب المباني بشكل متواتر، ما يصيبها بالضرر. وهو ما يشبه تأثير الزلازل على الأبنية. بالإضافة إلى أنّ عملية البناء الحديث في سورية لم تأخذ في الاعتبار احتمال التعرض للصواريخ أو الزلازل. وهو ما يفسر صمود المباني بشكل أكبر في الأحياء القديمة المدّعمة بشكل أكبر".
بدوره، يقول الطبيب عبد الرزاق جاسر إنّ عمليات القصف في حي الشعار، الذي يعمل فيه، خلّفت العديد من المشاكل. فقد تضرر نظام التمديد الصحي في معظم المباني التي أصيبت بقذائف، ما أنتج بيئة ملوثة ساعدت على انتشار الأمراض المعدية. ويُعدّ ساكنو المباني المتضررة الأقرب والأكثر احتمالاً للإصابة بالعدوى، بحسب جاسر. وينصح سكان هذه المباني بإجراء "عمليات صيانة للتمديدات الصحية والكهربائية، لتجنب الحوادث والأخطار الصحية الناجمة عن تلفها، وذلك بعد التأكد من عدم احتمالية حدوث انهيارات".
وبالإضافة إلى المباني المتضررة، فقد استقبلت هياكل الأبنية التي لم يكتمل بناؤها أيضاً بعض العائلات النازحة، في معظم المدن السورية، وهي مبانٍ توقف بناؤها بسبب الظروف الاقتصادية والأمنية السيئة في البلاد. وعن ذلك، يقول تاجر العقارات عباس خيري: "لا يرغب كثيرون في صرف أموالهم على البناء في الوقت الحالي. جميع المباني غير المكتملة في المدن التابعة لسيطرة النظام ممتلئة بالعائلات النازحة". ويضيف: "لا يوجد في هذه الأبنية جدران، ويمكن للمارين رؤية كل شيء داخلها. كما أنّها لا تقي سكانها من حرّ الصيف أو برد الشتاء، فهي أشبه بالعراء. إلا أن سكانها، وببساطة، ليس لديهم خيار آخر".
وفي أحد هذه المباني، في حي الحمدانية في حلب، تسكن أم حسن مع زوجها وأطفالها السبعة في الطابق الثاني. تقول المرأة: "بعد تهدم منزلنا، انتقلت مع عائلتي إلى إحدى المدارس التي تحولت الى مركز للإيواء في المدينة. كنا نسكن في غرفة واحدة مع عائلة أخرى. وبعد عامين، بات الأمر شديد الصعوبة، وأصبحت الغرفة أشبه بالسجن، فانتقلنا إلى هذا المبنى الذي تسكن فيه خمس عائلات أخرى". وتتابع: "أحضرنا بعض الأدوات المنزلية، وعلّقنا الشوادر بدلاً من الجدران، وبتنا نقضي نهارنا هنا، ونعود للمبيت في المدرسة". وتضيف: "يفتقر هذا الطابق للحواف في محيطه. عليّ أن أبقى متيقظة طوال الوقت، فليس في هذا المبنى ما يحمي أطفالي من السقوط من فوق الحافة. وأحرص على أن يلعبوا في منتصف الطابق".
وتشتكي أم حسن من أنّ المصاعب المعيشية أثّرت على الحالة النفسية لأفراد عائلتها. وتقول: "بات زوجي شديد الانفعال ويسيطر عليه الإحساس بالعجز عن تأمين حياة أفضل لنا. وبات يضرب الأولاد بشكل متكرر، ويفتعل الشجارات معي باستمرار".