خصصت المحاضرة لتجربة المخرجة الفرنسية أنييس فاردا، الرائدة فيما يعرف بالموجة السينمائية الجديدة، عقب الحرب العالمية الثانية، وتحدث فيها ريتشارد بنيا، أستاذ الدراسات السينمائية في جامعة كولومبيا الأميركية، والمتخصص في نظرية الأفلام والسينما الدولية.
وكان من المفترض أن تحضر فاردا، لكنها ولظرف صحي طارئ لم تتمكن من ذلك، وهي البالغة من العمر 91 عاماً، فأرسلت للجمهور الذي ينتظرها رسالة فيديو قالت فيها إنها كانت "ترغب بالمجيء إلى الدوحة، "حيث أكتشف مكاناً جديداً، وأناساً يحبون السينما، وأنا بدوري أحب من يحبونها".أما ريتشارد بنيا، فقد استفاض في الحديث عن فاردا، متتبعاً تاريخها، مع مشاهد مفصلية من أفلامها، قدمها على الشاشة، منبهاً إلى أنه ليس متحدثاً رسمياً باسم المخرجة، وإنما قارئ وناقد متخصص.
يربط بنيا حضور فاردا في عالم السينما بانتهاء الحرب العالمية الثانية. أي أنها كانت معاصرة لهزيمة بلادها، ثم مقاومة الاحتلال الألماني، والانتصار في الحرب، وانخراط المجتمع في حراك سياسي وثقافي جديد مع الجمهورية الرابعة.
وفي الوقت الذي تأطر دستور جديد للبلاد، كانت فرنسا تواجه نفسها وتبحث عن مستقبلها. اليد العاملة ما بعد الحرب تؤطر هويتها، وحقوقها في العمل أربعين ساعة أسبوعياً. أما إبداعات المسرح العبثي والرواية الجديدة والسينما الجديدة، فكانت تمور وتخرج من ماضيها إلى عوالم أخرى.
Facebook Post |
هذا ما لامسته بنسب مختلفة الدول التي دخلت الحرب وخرجت منها، ولكن بالنسبة لريتشارد بنيا، فإن فرنسا أكثر مكان في العالم وقعت فيه التحولات، ومن ذلك السينما التي كانت فاردا أحد مؤسسيها، والتي لا تكتفي بالترفيه والتوثيق فقط، بل بالتعبير عن الذات.
ولفت المحاضر إلى أن فاردا دخلت السينما من عالم المسرح، بل قبل ذلك من التصوير الفوتوغرافي، الذي استخدمته في التقاط صور للأعمال المسرحية. كانت شغوفة بالتقاط الوقت الحي في المساحة الحية وتثبيتها في عين الكاميرا.
ومنذ فيلمها الأول "لا بوانت كورت" تركت فاردا الكاميرا تعبر عن نفسها، بعفوية وبلعب أيضاً. تناول كذلك فيلم "كليو من 5 إلى 7" الذي أنجزته عام 1962، ويتحدث عن ساعتي انتظار في حياة سيدة، مشيراً إلى دخول الكاميرا خفيفة الوزن المحمولة، ما زاد من حرية الحركة والانتقالات السريعة في اللقطات.
وتطرق بنيا إلى تعدد تجارب فاردا، مبيناً أن مخرجي الأفلام الطويلة عادة لا يعودون إلى الأفلام القصيرة والوثائقية، لكن فاردا غير تقليدية.
إضافة إلى ذلك، فإن أسلوبها الهجين يخرج عن التصنيف الجاهز، فهو وثائقي وخيالي وتجريبي. وهنا يلاحظ بنيا كيف ظلت فاردا في سعي دؤوب لاكتشاف ذاتها، وعدم الركون إلى منوال متكرر. كثير من أفلامها صادف نجاحات وتقييمات نقدية عالية، وبعضها فشل، وفاردا تعلم وتدرك ذلك، كما تدرك أن عليها أن تجرب.
وبعد استخدام الكاميرات المتحركة، تعود فاردا في فيلم "المتشردة" (1985) إلى تثبيت الكاميرا على الحامل للحصول على مشاهد طويلة، في مقاربة مختلفة.
أما مع الكاميرات الرقمية، فإن السينما بعالمها الواسع، أصبحت أصغر بالنسبة إليها. ويبدو فيلم "الملتقطون وأنا" نموذجاً لمرحلة سينمائية متجددة، ضمن الوعي الذاتي لقضايا التزمت بها، منذ أن صنفت على يسار الموجة السينمائية الجديدة، وبقيت على رأس قضاياها المرأة والمهمشون.
فيلم "الملتقطون وأنا" الذي أخرجته عام 2000، عرض الجمعة، في افتتاح ملتقى قمرة، وتدخل فيه فاردا عالم المهمشين الذين يعيشون على ما يخلفه الآخرون في البساتين والحقول والشواطئ وحاويات القمامة.
لم يأت المحاضر على فيلم "وجوه أماكن" (2017)، وهذا مفهوم استناداً إلى طول تجربة فاردا وغناها. غير أن تذكيره الجمهور بأنها أكثر من مرة قالت إن هذا الفيلم سيكون الأخير، تعود متصببة بالرغبة في مغامرة جديدة.
وهي مع فيلم "وجوه أماكن" في عمر التاسعة والثمانين، ترافق شاباً بعمر حفيدها للدخول في التاريخ وأرواح الناس والتداعيات عبر كاميرتين فوتوغرافية وسينمائية. وهو فيلم نموذجي لتدريس لعبة الخيال والحقيقة، والصورة والواقع، والمقالة السينمائية التي تحول الكاميرا إلى قلم، وأخيراً الخيال بلا حدود.
رداً على سؤال بشأن سيطرة السيرة على أعمال فاردا، دون أن تكون ثقيلة على المشاهد، يحيل بنيا ذلك إلى الصراحة الكبيرة لديها، والثقة التي تجمع المشاهد بأفلامها، حتى وهي تخاطر دائماً بالمشي على خيط رفيع.
يذكر أن خبراء ملتقى قمرة يتحدثون عن تجاربهم في صناعة السينما، بما يفيد الجمهور المتابع، وأصحاب المشاريع الجديدة التي تدعمها مؤسسة الدوحة للأفلام، وتتواصل هذه اللقاءات حتى اليوم الأخير من دورة قمرة 2019.