في أول فيلم روائي طويل لها، بعنوان "أفضل ما عند دوريان ب."، تقدّم المخرجة البلجيكية أنكه بلونده عملاً ممتازًا، شكلاً ومضمونًا، يُعبّر عن مأزق العيش في المجتمعات الغربية المعاصرة. يرسم الفيلم بورتريهًا استثنائيًا لسيدة تُدعى دوريان (كيم سنوفرت في أداء باهر)، تعاني أزمة وجودية. متزوّجة، وأم لطفلين. كلّ شيء ينهار حولها، إلاّ أنّها تحاول التمسّك بخشبة الخلاص، وإعادة إحياء ذاتها من العدم.
براعة بلونده، التي أخرجت سابقًا ثلاثة أفلام قصيرة ذاع صيتها، كامنة في مقاربتها الحكاية بأسلوب يتأرجح بين المأساة والطرافة، ما يولّد مواقف شديدة العبثية. كلّ أسباب السعادة متوافرة عند دوريان، ومع ذلك تغيب الابتسامة عن وجهها.
يقدّم الفيلم جردة حساب، لا تخلو من الطرافة، عن الطبقة الوسطى في بلجيكا. أمٌّ، في أواخر الثلاثينيات من عمرها، تقع في فخّ المسؤوليات التي تنهال عليها من كلّ حدب وصوب، فهي أمٌّ وابنة وزوجة.
في الدورة الـ48 (23 يناير/ كانون الثاني ـ 3 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، التي شهدت العرض العالمي الأول لفيلمها هذا في المسابقة الرسمية، أجرت "العربي الجديد" حوارًا مع أنكه بلونده.
(*) نضحك ونحزن في فيلمك "أفضل ما عند دوريان ب.". هل كانت هذه نيّتك منذ البداية؟
ـ أجل. وددتُ أن أستخرج الدعابة من قلب الظروف المأسوية. هذا تكريسٌ لإيماني بأن الأشياء المأسوية ربما تكون عبثية أيضًا. بالنسبة إليَّ، هذه طريقة لتجاوز المشكلات، والوصول إلى برّ الأمان، والصمود والبقاء على قيد الحياة. أحيانًا، تتعرّض لمصيبة، لكن عندما ترى أنه يمكنك تحويلها إلى دعابة، فهذا يمدّك بطاقةٍ للخروج من الوضع السيئ الذي وجدتَ نفسك فيه. دائمًا، عندما أكتب نصوصي، أحاول أن أبثّ بعض الأمل، انطلاقًا من المواقف العبثية التي أخلقها. هذا يسهّل التواصل مع المُشاهد.
(*) هل هذا النمط سائد في السينما الفلمنكية؟
ـ البتّة. السينما الفلمنكية سوداء ودراماتيكية. هناك أفلام كوميدية طبعًا. لكن الكوميديا منفصلة دائمًا عن الدراما، ولا تلتقيان في فيلم واحد. في كلّ حال، هذا أسلوبي في العمل. لا أجيد صنع شيء آخر. إنه النحو الذي أرى فيه الأشياء. عمليًا، كان الـ"كاستنغ" أساسيًا في هذا المجال. منذ البداية، بحثتُ عن ممثّلين لديهم القدرة على الدعابة، لأني أؤمن بأن مَن يستطيع صناعة الضحك يستطيع صناعة الدراما، أما العكس فليس صحيحًا دائمًا. لذلك، بحثتُ عن ممثّلين يستطيعون المزج بين النوعين التمثيليين. كان عليهم القفز من نوع إلى آخر طوال الوقت. الأصعب أنّه يجب أن يكونوا في منتهى الجدّية، علمًا أنّ الموقف الذي هم فيه مضحك. هنا المعضلة.
سعيتُ أيضًا إلى إضفاء طابع التراجيكوميديا على الفيلم، باللجوء إلى الألوان الفاتحة. الديكور خليط من الخلفيات الداكنة والألوان الهادئة، وهذا يُعزّز الإحساس الذي وصلك. أعتقد أن الموسيقى ساعدتني كذلك في خلق هذا الجو. أضفتُ بعض النوتات الموسيقية هنا وهناك. الهدف من وجودها كوميدي أكثر منه دراماتيكي. أقتفي دائمًا أثر انفعالات الشخصية الرئيسية، آخذة في الاعتبار التوازن بين الدراما والفكاهة.
ـ لهذا السبب اخترتها. لقدرتها على قول حكاية بعينيها. العينان مهمّتان جدًا في السينما. هذا ما يميّز كبار الممثّلين والممثّلات. هي "ناظرة" جيدة. تخيل أنها تمثّل في فيلمٍ للمرة الأولى. في الأصل، هي فنّانة استعراض، لا ممثّلة. قابلتها في المدرسة. ابنتي وابنتها ترتادان المدرسة نفسها. التقيتها صدفة، بعد أن استغرق بحثي عنها أعوامًا طويلة. كنتُ أراها وأقول في نفسي دائمًا: "لديها شيءٌ خاص". في النهاية، اقترحتُ عليها الفكرة، فواقفت. وهكذا كان.
(*) هذه قصّة سيدة تعاني ما تعانيه. زوجها لا يهتم بها كثيرًا.
ـ لا أوافق على أنّ الشخصيات لا تكترث بها، بل لا تراها ولا تفهمها من الأساس. هذه حال نساء كثيرات أعرفهنّ. أنا وغيري نتاج تربية جيل من النساء المتحرّرات. كانت أمي تدعني أفعل ما أشاء، من دون أية مشكلة. تذكّرني أني حرّة. مع ذلك، في اللحظة التي تُصبح فيها إحدانا أمًّا، تحرص الطبيعةُ من جهةٍ والبيئةُ الاجتماعية من جهةٍ أخرى على تذكيرنا بأن مجال حريّتنا ضاق. لهذا السبب، أعتقد أنّ هناك رجالاً ونساءً كثيرين يعانون أزمةً عندما يُرزقون بأولاد. نعيش في مجتمع غربيّ يمجّد الفردانية، وهذا ليس حَسنًا. الحرية الشخصية باتت أهم شيء في الدنيا.
(*) لم ترغبي في إنجاز فيلم نسوي كما هو السائد في الفترة الأخيرة.
ـ لا، لم أرغب في إنجاز فيلم لهذا الهدف، أو للدفاع عن قضية المرأة في المجتمع. انطلقتُ من رغبة في رسم بورتريه لسيّدة وقعت في فخّ الحياة. للمناسبة، كان يمكن أن تكون رجلاً. لكن، لكوني امرأة، يسهل عليّ ربما أن أحكي قصّة امرأة. السبب الآخر هو أني أعرف أفلامًا كثيرة عن أزمة الرجال، لكني لا أعرف أفلامًا عن أزمة النساء. مثيرُ جداً رؤية ماذا يحدث داخل سيدة.
(*) رغم أنها لا تزال شابة كي تعيش أزمة.
ـ لا أؤمن بأزمة منتصف العمر. أعتقد أنه يمكنك أن تعيش أزمة حتى في سنّ المراهقة. تبلغ مرحلة من عمرك تشهد فيها كلّ أنواع الصعاب. كلّ السلبيات تتجمّع في لحظة واحدة، ولا تستطيع شيئًا حيالها. لا حلّ أمامك سوى الرجوع خطوات إلى الخلف، لترى أين أنت من هذا كلّه. لذا، تقوم برحلة بحثٍ عن الهوية، كي تعيد اعتبار الأشياء. صحيح أننا أحياء، لكننا في معظم الأحيان نكون غائبين عن الوعي. ثم تدرك فجأة أين أنت، وما هي خياراتك، وأية هوية تريد. لهذا السبب، لا أقارب عملي من منظور نسوي. أنا أعي هذا تمامًا. النساء والرجال متساوون. لا حاجة إلى التفرقة بينهم.
(*) صحيح، خصوصًا أنك سعيتِ إلى عدم إظهار المرأة كشخصٍ مُنزّه عن الأخطاء.
ـ وددتُ البقاء في المنطقة الرمادية. الأشياء في الحياة ليست سوداء أو بيضاء. لا أحد يستطيع الادّعاء أنّه يمتلك الحقيقة. لكلّ منّا حقيقته. لكلّ منا هويته. كلّ واحد منّا يتفاعل مع العالم وفقًا لقِيَمٍ تربّى عليها. ما يخيفني في زمننا الحالي هو الاستقطاب. شيطنة المرأة أو الرجل. هذا شيء شديد الغباء. لا يوجد شخص سيئ من الداخل. يصبح كذلك بسبب التربية أو المجتمع الذي يقيم فيه. مصاعب كثيرة تجعل الناس حزانى. الحزن ربما يولّد فينا سلوكًا سيئًا. لكني لا أؤمن بالسوء المطلق.
(*) بالنسبة إلى شخص يأتي من شرق الكوكب، لا بدّ أن يبذل جهدًا كبيرًا ليفهم ما الذي يجعل الشخصيات على هذا القدر من الكآبة، رغم أنها تعيش رفاهيةً، وتملك وسائل الراحة.
ـ هل تقصد أن الفيلم عن إنسانة بيضاء تملك الامتيازات كلّها؟ (ضحك).
يعجبني أن تقول هذا، لأني كنتُ أعيه عندما كتبتُ السيناريو. في النسخة الأولى التي وضعتها، كنّا نسمع ما يحدث في العالم الثالث من مآسٍ من خلال نشرات الأخبار، والحياة تستمرّ، والغربيون لا يكترثون كثيرًا بما يحدث. لكني حذفتُ هذه المَشاهد من النسخ التالية، فتبخّرت الفكرة. لم أرد إثقال الفيلم بالأفكار. أدرك تمامًا أنّ الفيلم برمّته من وجهة نظر هؤلاء الناس الذين أفسدتهم الرفاهية وفرصة العيش في بلدٍ مستقرّ. لكنّي أعيش هنا، ولا أعرف أن أصوّر شيئًا آخر. أعرف أن مشكلاتنا لا تُساوي شيئًا قياسًا بمشاكل اللاجئين، ومحاولاتهم البقاء على قيد الحياة خلال الحروب. لكن، في النهاية، لا يسع المخرج إلاّ أن يتكلّم عمّا يعرفه. يحق للجميع أن يحزنوا، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، سواء كانوا يعيشون في دولة مستقرّة أو في دولة على شفير الهاوية.
(*) هل أنتِ من الطبقة الاجتماعية التي صوّرتِها في الفيلم؟
- نعم، ما عدا أن والديَّ لا يعملان في الطبّ البيطري. بلى، ولدتُ وتربيتُ في الطبقة الوسطى.
(*) إذا كان لا بدّ من إعطاء عنوان واحد للفيلم، أرى أنه "الوحدة". الوحدة التي يعانيها الإنسان الغربي في مجتمعات تغلب عليها الفردانية. أتخافين الوحدة؟
ـ أرواحنا تعيش في عزلة ووحدة. الغبطة تتأتّى من اتصال أحدنا بالآخر. المشاركة تجعل حياتنا على هذه الأرض شيئًا يستحق العيش. الطاقة التي تتلقّاها من الآخرين أهمّ ما في هذا الوجود.