05 مارس 2023
أنقرة بعد رفع علم كردي في كركوك
تقول النكتة التركية إن الضابط المشرف على قطعة "تمل" المتمركزة على جبهة القتال استدعاه وأراد ممازحته: ماذا ستفعل، يا تمل، إذا ما كنت على الجبهة، وظهر أمامك عدو يريد قتلك؟ أجاب: أطلق عليه النار قبل أن يقتلني. فتابع الضابط: وماذا ستفعل إذا ما ظهر، في الوقت نفسه، أحد المهاجمين من خلفك؟ قال: أحاول أن أستدير لأقتله أيضا. وسأل الضابط: وإذا جاء جنود آخرون عن يمينك ويسارك وحاصروك من كل صوب؟ فرد غاضبا: سأعمل جهدي لأقتلهم، لكنني لم أفهم ما هو دور رفاقي، إذا ما كنت سأحارب العدو وحدي على الجبهة.
تركيا محاصرة من كل صوب بالأزمات والمشكلات في المنطقة، ويريد بعضها أن تكون وحدها في المواجهة ترد على الجميع.
وصفت الخارجية التركية قرار مجلس محافظة كركوك رفع علم إقليم كردستان العراق على المباني الحكومية في كركوك، بأنه "تصرّف أحادي الجانب، يخالف الدستور العراقي، وإن عملية التصويت التي جرت في مجلس المدينة، والتي قاطعتها الكتلتان، العربية والتركمانية، غير شرعية، وتبعث على القلق حيال نيات بعضهم هناك، كونها خطوة منفردة، ستضر في الالتزام بمفاهيم المصالحة والحوار بين مكونات المجتمع العراقي. هل هذا هو أكثر ما يمكن أن تقوله أو تفعله أنقرة حيال التطورات في كركوك، بسبب مشكلاتها الكثيرة مع قوى سياسية محلية وإقليمية فاعلة في العراق؟
كانت تركيا أول من رفض طريقة طرح مستقبل كركوك في الدستور العراقي الذي دعمته
أميركا عام 2005. لكنها كانت أول من اقترح تأجيل موضوع مصير كركوك في أعقاب مذكرة التفاهم الموقعة في ديسمبر/ كانون الأول 2007 بين أحزاب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاتي والحزب الإسلامي حول تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي المتعلقة بمصير المدينة. تفاهم اليوم هو استكمال للتفاهم القديم، حيث دعت تركيا وقتها إلى إرجاء طرح الموضوع عشر سنوات. وربما كانت أنقرة تراهن على تحولات سياسية جغرافية عرقية في العراق، لصالح مشهد جديد، فعلا هي أصابت في توقعها، لكنها أخطأت في حسابات أن هذه التطورات ستجعلها المتضرّر الأول.
أخطأت في قراءتها لمسألة كركوك، أولاً، عندما اعتبرت أن المادة 140 من الدستور العراقي التي تقضي بحسم الصراع حول مدينة كركوك، الغنية بالنفط والمتنازع عليها بين الكرد والعرب والتركمان، والتي تمرعبر ثلاث مراحل، تبدأ بإعادة سكانها الأصليين المغادرين من العرب وإعادة الوافدين إليها من مناطق أخرى. وبعد ذلك، يتم استفتاء الأهالي على مصير المدينة، لجهة انضمامها إلى إقليم كردستان، أو بقائها مدينة ذات وضع خاص، لن تدخل حيز التنفيذ، لأن تحقيق هذه الشروط مسألة صعبة ومعقدة ومتشابكة، وتجنبت الحديث عن بدائل وسيناريوهات أخرى قد تحصل.
وتمسكت أنقرة فقط بمقولة أن هذه المادة الدستورية لا بد أن تتغير، لأنها تمس مباشرة أمنها القومي، وتمنح الأكراد توسيع رقعة نفوذهم الجغرافي والاقتصادي على حساب التركمان هناك، من دون الحديث مع بغداد في حوار حول ذلك، بل هي سمحت بتوتير علاقتها مع السلطة المركزية التي تحتاج لها اليوم، لتكون إلى جانبها.
وراهنت تركيا دائما على إبقاء أكراد العراق داخل الشرنقة العراقية، بعيدا عن مشاريع الفدراليات، وتأجيج الشعور القومي الكردي إقليميا، ما يعني تحريك أكراد تركيا نحو تقليد إخوتهم في العراق، متجاهلة مشاريع لاعبين آخرين في الملف العراقي وأهدافهم ومصالحهم.
وتركيا تعرب اليوم عن مساندتها موقف الحكومة العراقية والبرلمان في رفض رفع علم كردستان على المباني الرسمية في كركوك، ملوّحة بالورقة الأممية عند اللزوم. لكن الذي لم يعد بمقدور أنقرة أن تفعله بعد الآن، على الرغم من وجود وحداتها الرمزية في بعشيقة، هو تنفيذ ما كان يلوح به رئيس وزرائها الأسبق، أحمد داود أوغلو، الذي كان يردّد وقتها أن بلاده على استعداد للذهاب إلى أبعد مدى من أجل حماية التركمان في كركوك، ومنع تغيير هوية المدينة، فمع من هي ستفعل ذلك؟
الوضع التركي الصعب في شمال العراق اليوم لا يعكسه فقط نجاح بعضهم في لعب ورقة "داعش" ضدها في الموصل، حيث برزت معادلات أمنية وجغرافية جديدة، تعرقل تماما النفوذ التركي، وما ردّدته أنقرة دائما حول خط كركوك الأحمر، بل يبدو أن العلاقات بين إقليم كردستان وتركيا التي تحسنت، في الأعوام القليلة الماضية، مهدّدة بالتراجع، بعدما أكد حليفها المفترض رئيس الإقليم، مسعود البرزاني، أنه يدعم قرار رفع علم الإقليم في كركوك أولا، وأنه سيذهب حتى النهاية وراء الاستفتاء على مشروع حق تقرير المصير الذي يمنحه الدستور العراقي لأكراد الإقليم ثانيا.
مشكلة تركيا أنها، وبسبب تباعد سياساتها وتضارب مصالحها وحساباتها مع أميركا في العراق، وجدت نفسها وسط سياسة متناقضة، تتراوح بين التشدّد والتساهل والتجاهل والتصعيد مرة
واحدة في علاقتها مع القوى السياسية المؤثرة في العراق، أو في الملف العراقي. وإن التحذير التركي من اشتعال حرب أهلية في كركوك بسبب القرارات الكردية لم يعد مؤثرا، بعد دخول أكثر من عامل أمني وسياسي وعسكري على الخط. بعض القوى الكردية تريد الربط بين ما يجري في كركوك وسنجار ومنبج، وربما عفرين أيضا.
يقاتل الجيش العراقي لطرد "داعش"، لكنه يعرف أن القوات الكردية شريكه في العمليات لن تغادر الأراضي التي تحرّرها إلا في إطار صفقة أو مساومة تضمن كركوك داخل جغرافيتها. ناهيك عن قوة التمثيل الكردي في المجلس المحلي للمدينة الذي اتخذ قرار رفع أعلام الإقليم من دون تردّد، تمهيدا لإنزال العلم العراقي لاحقا.
ومن شأن تصريحات البرزاني حول عدم وجود أية فرصة للمساومة على مدينة كركوك وضرورة تطبيق المادة 140 من الدستور، أنها تقول لبغداد إن المعجون غادر الأنبوب، ولا يمكن إعادته، لكنه يقول شيئا أهم للحليف التركي: شكرا على الخدمات والتسهيلات المقدمة حتى اليوم.
أكراد إقليم شمال العراق يريدون حكما ذاتيا يدعمه قرار حق تقرير المصير ويريدون كركوك التي تجلس فوق أكبر احتياطيات نفطية في العراق مدينة تابعة لهم. فهل يكون الرد هو التقارب العاجل بين أنقرة وبغداد؟ هل تسمح إيران وأميركا بذلك؟
أعلنت أربيل أن موعد تنظيم الاستفتاء العام لمواطني الإقليم الكردي حول موضوع تقرير المصير سيكون قبل نهاية هذا العام. إقليم غارق في الأزمات والديون والتشرذم السياسي والحزبي يلتقي حول نقطة إعلان الدولة الكردية المستقلة، على الرغم من معرفته بالصعوبات التي تنتظره حول القيادة والزعامة وتقاسم النفوذ. الاعتراف الدولي والأممي بهذه الدولة الجديدة جاهز، على ما يبدو، في أذهان الغربيين، لأنه المشروع التفتيتي الأهم في المنطقة. على أية جبهة ستحارب تركيا، لا أحد يعرف تماما خياراتها بعد؟
لكن الواضح هو أن تركيا وقعت في فخ دعم الأكراد في حربهم ضد "داعش"، وها هي تجد نفسها وجها لوجه معهم في كركوك، بعد اقتراب نهاية معركة الموصل. وخياراتها تتقلص مع شريكها المحلي المتبقي تركمان المدينة والإعلان أنها باقية عسكريا، حتى الوصول إلى تفاهماتٍ تضمن مصالح هذه الأقلية المحسوبة عليها وحقوقها، مفاجاة آخر لحظة قد تكون إخراج الأرنب من القبعة التركية الإيرانية في العراق يكون مقدمة لتفاهم أوسع في سورية إذا ما شعرت أنقرة وطهران بحجم خطورة المشروع الأميركي الروسي في البلدين على حسابهما.
قرار مجلس محافظة كركوك رفع علم إقليم كردستان إلى جانب العلم العراقي، في جلسة تصويت قاطعها ممثلو العرب والتركمان أعقبه على الفور تصويت البرلمان العراقي على قرار يقضي برفع العلم العراقي فقط في كركوك، وإنزال أي علم آخر، وكذلك عدم التصرف بنفط المدينة بعد انسحاب نواب كتل الأحزاب الكردية المنضوية في التحالف الكردستاني، من الجلسة احتجاجاً على قراءة صيغة القرار. الرد الأميركي الروسي قد يأتي عبر تحريك أوراق ضغط أو إغراء لبغداد لقبول تنفيذ المادة 140 وإجراء استفتاء حول كركوك. موقف العالم العربي هو غير معروف أيضا إذا ما كان سيتجاوز فقرات الإدانة والتنديد والرفض الواردة في بيان القمة العربية في البحر الميت في الأردن للسياسات الإيرانية والتركية في العراق أم لا؟
تركيا محاصرة من كل صوب بالأزمات والمشكلات في المنطقة، ويريد بعضها أن تكون وحدها في المواجهة ترد على الجميع.
وصفت الخارجية التركية قرار مجلس محافظة كركوك رفع علم إقليم كردستان العراق على المباني الحكومية في كركوك، بأنه "تصرّف أحادي الجانب، يخالف الدستور العراقي، وإن عملية التصويت التي جرت في مجلس المدينة، والتي قاطعتها الكتلتان، العربية والتركمانية، غير شرعية، وتبعث على القلق حيال نيات بعضهم هناك، كونها خطوة منفردة، ستضر في الالتزام بمفاهيم المصالحة والحوار بين مكونات المجتمع العراقي. هل هذا هو أكثر ما يمكن أن تقوله أو تفعله أنقرة حيال التطورات في كركوك، بسبب مشكلاتها الكثيرة مع قوى سياسية محلية وإقليمية فاعلة في العراق؟
كانت تركيا أول من رفض طريقة طرح مستقبل كركوك في الدستور العراقي الذي دعمته
أخطأت في قراءتها لمسألة كركوك، أولاً، عندما اعتبرت أن المادة 140 من الدستور العراقي التي تقضي بحسم الصراع حول مدينة كركوك، الغنية بالنفط والمتنازع عليها بين الكرد والعرب والتركمان، والتي تمرعبر ثلاث مراحل، تبدأ بإعادة سكانها الأصليين المغادرين من العرب وإعادة الوافدين إليها من مناطق أخرى. وبعد ذلك، يتم استفتاء الأهالي على مصير المدينة، لجهة انضمامها إلى إقليم كردستان، أو بقائها مدينة ذات وضع خاص، لن تدخل حيز التنفيذ، لأن تحقيق هذه الشروط مسألة صعبة ومعقدة ومتشابكة، وتجنبت الحديث عن بدائل وسيناريوهات أخرى قد تحصل.
وتمسكت أنقرة فقط بمقولة أن هذه المادة الدستورية لا بد أن تتغير، لأنها تمس مباشرة أمنها القومي، وتمنح الأكراد توسيع رقعة نفوذهم الجغرافي والاقتصادي على حساب التركمان هناك، من دون الحديث مع بغداد في حوار حول ذلك، بل هي سمحت بتوتير علاقتها مع السلطة المركزية التي تحتاج لها اليوم، لتكون إلى جانبها.
وراهنت تركيا دائما على إبقاء أكراد العراق داخل الشرنقة العراقية، بعيدا عن مشاريع الفدراليات، وتأجيج الشعور القومي الكردي إقليميا، ما يعني تحريك أكراد تركيا نحو تقليد إخوتهم في العراق، متجاهلة مشاريع لاعبين آخرين في الملف العراقي وأهدافهم ومصالحهم.
وتركيا تعرب اليوم عن مساندتها موقف الحكومة العراقية والبرلمان في رفض رفع علم كردستان على المباني الرسمية في كركوك، ملوّحة بالورقة الأممية عند اللزوم. لكن الذي لم يعد بمقدور أنقرة أن تفعله بعد الآن، على الرغم من وجود وحداتها الرمزية في بعشيقة، هو تنفيذ ما كان يلوح به رئيس وزرائها الأسبق، أحمد داود أوغلو، الذي كان يردّد وقتها أن بلاده على استعداد للذهاب إلى أبعد مدى من أجل حماية التركمان في كركوك، ومنع تغيير هوية المدينة، فمع من هي ستفعل ذلك؟
الوضع التركي الصعب في شمال العراق اليوم لا يعكسه فقط نجاح بعضهم في لعب ورقة "داعش" ضدها في الموصل، حيث برزت معادلات أمنية وجغرافية جديدة، تعرقل تماما النفوذ التركي، وما ردّدته أنقرة دائما حول خط كركوك الأحمر، بل يبدو أن العلاقات بين إقليم كردستان وتركيا التي تحسنت، في الأعوام القليلة الماضية، مهدّدة بالتراجع، بعدما أكد حليفها المفترض رئيس الإقليم، مسعود البرزاني، أنه يدعم قرار رفع علم الإقليم في كركوك أولا، وأنه سيذهب حتى النهاية وراء الاستفتاء على مشروع حق تقرير المصير الذي يمنحه الدستور العراقي لأكراد الإقليم ثانيا.
مشكلة تركيا أنها، وبسبب تباعد سياساتها وتضارب مصالحها وحساباتها مع أميركا في العراق، وجدت نفسها وسط سياسة متناقضة، تتراوح بين التشدّد والتساهل والتجاهل والتصعيد مرة
يقاتل الجيش العراقي لطرد "داعش"، لكنه يعرف أن القوات الكردية شريكه في العمليات لن تغادر الأراضي التي تحرّرها إلا في إطار صفقة أو مساومة تضمن كركوك داخل جغرافيتها. ناهيك عن قوة التمثيل الكردي في المجلس المحلي للمدينة الذي اتخذ قرار رفع أعلام الإقليم من دون تردّد، تمهيدا لإنزال العلم العراقي لاحقا.
ومن شأن تصريحات البرزاني حول عدم وجود أية فرصة للمساومة على مدينة كركوك وضرورة تطبيق المادة 140 من الدستور، أنها تقول لبغداد إن المعجون غادر الأنبوب، ولا يمكن إعادته، لكنه يقول شيئا أهم للحليف التركي: شكرا على الخدمات والتسهيلات المقدمة حتى اليوم.
أكراد إقليم شمال العراق يريدون حكما ذاتيا يدعمه قرار حق تقرير المصير ويريدون كركوك التي تجلس فوق أكبر احتياطيات نفطية في العراق مدينة تابعة لهم. فهل يكون الرد هو التقارب العاجل بين أنقرة وبغداد؟ هل تسمح إيران وأميركا بذلك؟
أعلنت أربيل أن موعد تنظيم الاستفتاء العام لمواطني الإقليم الكردي حول موضوع تقرير المصير سيكون قبل نهاية هذا العام. إقليم غارق في الأزمات والديون والتشرذم السياسي والحزبي يلتقي حول نقطة إعلان الدولة الكردية المستقلة، على الرغم من معرفته بالصعوبات التي تنتظره حول القيادة والزعامة وتقاسم النفوذ. الاعتراف الدولي والأممي بهذه الدولة الجديدة جاهز، على ما يبدو، في أذهان الغربيين، لأنه المشروع التفتيتي الأهم في المنطقة. على أية جبهة ستحارب تركيا، لا أحد يعرف تماما خياراتها بعد؟
لكن الواضح هو أن تركيا وقعت في فخ دعم الأكراد في حربهم ضد "داعش"، وها هي تجد نفسها وجها لوجه معهم في كركوك، بعد اقتراب نهاية معركة الموصل. وخياراتها تتقلص مع شريكها المحلي المتبقي تركمان المدينة والإعلان أنها باقية عسكريا، حتى الوصول إلى تفاهماتٍ تضمن مصالح هذه الأقلية المحسوبة عليها وحقوقها، مفاجاة آخر لحظة قد تكون إخراج الأرنب من القبعة التركية الإيرانية في العراق يكون مقدمة لتفاهم أوسع في سورية إذا ما شعرت أنقرة وطهران بحجم خطورة المشروع الأميركي الروسي في البلدين على حسابهما.
قرار مجلس محافظة كركوك رفع علم إقليم كردستان إلى جانب العلم العراقي، في جلسة تصويت قاطعها ممثلو العرب والتركمان أعقبه على الفور تصويت البرلمان العراقي على قرار يقضي برفع العلم العراقي فقط في كركوك، وإنزال أي علم آخر، وكذلك عدم التصرف بنفط المدينة بعد انسحاب نواب كتل الأحزاب الكردية المنضوية في التحالف الكردستاني، من الجلسة احتجاجاً على قراءة صيغة القرار. الرد الأميركي الروسي قد يأتي عبر تحريك أوراق ضغط أو إغراء لبغداد لقبول تنفيذ المادة 140 وإجراء استفتاء حول كركوك. موقف العالم العربي هو غير معروف أيضا إذا ما كان سيتجاوز فقرات الإدانة والتنديد والرفض الواردة في بيان القمة العربية في البحر الميت في الأردن للسياسات الإيرانية والتركية في العراق أم لا؟