أنقذوا "دولة كأن"!

08 نوفمبر 2018
+ الخط -
نحن يا سادة نعرف قدرنا في هذا العالم الكبير، كبرنا وأفقنا من أوهام الماضي المجيد والتاريخ التليد، وتخلينا عن نزق الشباب وتهوره، أو تخلت عنا حِميته وكبرياؤه، فأصبحنا نقدر العالم الثالث الذي ننتمي إليه، نقدره ونألفه، بل ونحبه!

على الأقل هو عالم له غاية يسعى للوصول إليها في مستقبله مهما ساء حال حاضره، لكن خبرني بالله عليك كيف يعيش أهل العالم الأول هؤلاء هكذا بلا غاية؟ متنعمين على الدوام؟ مرتاحين أبدا؟ لا يتطلعون إلى طبقة أعلى على سلم التقدم ليرتقوها، ولا يرومون إصلاح مجارٍ، ولا تشغيل مدارس، ولا إلغاء دروس خصوصية، ولا خفض أسعار، ولا رفع قمامة؟ تالله لهي حياة تبدو للرائي هنيةً على البعد، لكنها تنضح في قلبها بالملل والوحشة والاكتئاب بلا شك، فلهم الله!

هذه مقدمة ضرورية لكي تتأكدوا من أن الرضا بالمقسوم هو شعارنا، وأننا لسنا شعوبا من النماريد و"قلالات الأصل" ومن يأكلون زادكم الطيب ثم ينكرونه كما يدّعي علينا الإخوة "السنيدة" في الصحف والقنوات، بالعكس، لقد نضجنا وأمسينا "لا أصبحنا"، في ظلام عالمنا الجميل، أكثر سعادة وامتنانا. فمن يأكل منا، ينظر لمن يبيت خاوي الجوف، ومن يكدح عمره كله لسد الرمق، ينظر للعاطل البائس، ومن ينجُ من حفرة العلاج الشحيح، يشفق على من يقع فيها، ومن ينخرس لسانه لكنه ما يزال قادرا على سماع صوت تنفسه، يتذكر بفرحة الناجين مَن يُقَطّعون بالمناشير ويذابون في الأحماض، وهكذا دواليك.

كلنا يتدلى رأسه للنظر للأسفل طالبا كبح جماح نفسه المتطلعة الأمارة بالسوء، حتى أمسينا أمة من مقصوفي الرقبة فعلا، كما يهمز بها ويلمز الإخوة "السنيدة" لهم من المولى ما يستحقون.


وللحق، لا يتعارض الرضا بالحال وقصف الرقبة هذا مع رغبة الواحد منا في حفظ شكله أمام العالم، مجرد شكله! فقد صرت مع النضج والوعي، محبة لـ"دولة كأن" ومعضدة لوجودها.

إذ ما أبدع أن نتخفف من أعباء الجد والاجتهاد لملء الجوهر وتحقيق المعاني، فيما يسعنا، بلا مجهود يذكر، رسم مظهر معقول نكيد به العذال والشامتين والمتهكمين على موقعنا المتأخر بين الأمم!

لكن على ما صرت أعتقده من عبقرية في إقامة دولة كأن والحفاظ عليها لعقود طويلة، أجدني الآن قلقة على بقاء تلك الدولة الظريفة التي نرتع في خيرها صباح مساء. فقد بت ألاحظ هبوطا عن مستوى الحد الأدنى الذي تتطلبه إقامة دولتنا العامرة بكل أسف، وأقصد بالحد الأدنى أقل قدر ممكن من الشروط اللازمة لإقامة "مناظر" دولتنا، وهو الحد الذي يعني الهبوط عنه تهديد دولة كأن في وجودها نفسه!

ولتنظروا معي لكل المهن بلا استثناء واحد، كلها بدأت تتخلى عن الحد الأدنى المطلوب، فمثلا، نحن لن نتجرأ ونطلب لـ"دولة كأن" المعلم المتعلم بحق، ولا الفاهم، ولا المتنور، ولا التربوي، ولا المحترم المهاب، فذلك من خيالات الماضي البائد، لكننا يجب أن نقلق ونراجع الحدود الدنيا عندما يتفشى المعلم "الصايع" والبلطجي والسبّاب والفحاش والراقص والمعتدي والمتحرش والمغتصب.

لا نطلب تعميم الطبيب المتعلم المتدرب الإنساني الراقي المتعاطف المواكب لأطباء العالم علما وعملا وخلقا، لكننا يجب أن نحد من أخبار الطبيب المضروب والمهان، ومن نماذج الطبيب الغليظ عديم الرحمة، ومن حوادث الطبيب المقصر المخطئ الهارب من المسؤولية.

لا نطلب القاضي العلامة الفطحل في اللغة والقانون والأدب والتاريخ والذي يتذكر الناس أحكامه ومواقفه بعد الزمان بزمان، فنحن راضون به "بيفك الخط" ويقرأ على العوام ما تيسر من الذكر ولو بلا أي تجويد!

لا نطالب باستنساخ علماء مثل زويل وحجي ومشرفة، بل لا نريد علماء بالمرة، "دولة كأن" لا تحتاجهم أصلا! لكن ارحمونا من مسوخ الفضائيات من المخترعين والعباقرة وفلتات زمانهم قبل أن يتنبه لنا العالم!

لا نريد المذيعين والمذيعات مثقفين ولا محاورين ولا وقورين ولا حتى ذوي أصوات صالحة للمايكروفون، لكننا لا نريدهم في صورة الراقصات والمتبذلات والبلطجية والسِفلة والمحرضين، أو الفلاح الفصيح!

لن نحلم بالسياسي والتنفيذي الحريص المتزن الواعي المدقق في كلامه لأنه محسوب عليه، فالحساب عندنا يوم الحساب كما قال أحدهم، لكننا ننصح بالستر وبقلة التصريحات، فنحن نفضلهم "يعملون في صمت" عن فضحنا بكل هذا الهراء!

وقس على ذلك الكتّاب والصحافيين والفنانين والدعاة والشيوخ والحقوقيين والمعارضة و"المنافقة"، والعامل في مصنعه والفلاح في حقله وكل من يعيش معنا حالة كأن البديعة هذه.

انتبهوا يا سادة! حافظوا على الحد الأدنى لـ"المظهر" المقبول لكل شيء، وابتعدوا عن الفجاجة ومخاصمة أبسط ما اتفقت عليه البشرية، فالخوف كل الخوف أن نكون -لبؤس طالعنا- الجيل الشقي الذي يبدد "دولة كأن" التي هلك دونها الآباء والأجداد، والتي تضمن لنا البقاء في العالم الثالث، أو في أي عالم والسلام!

اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد.
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى