أندلسيّات

29 سبتمبر 2015
+ الخط -
على الليمون
إن كلمة ليمون (limón) في اللغة الإسبانية هي من أصل عربي. أما عبارة (al alimón) فإن ترجمتها هي على الليمون، وهي نوع من اللعب يقوم به الأطفال الإسبان وهم يغنون ويرقصون مردّدين هذه العبارة على التناوب، وقد حاكى مصارعو الثيران الإسبان لعبة الاطفال هذه، فاتخذوها لرياضتهم الدموية المغامِرة الخطرة، محتفظين بهذه العبارة لتُطلق على نوع من أنواع مصارعتهم، وبهذه العبارة عُرف هذا النوع فشاعت العبارةُ.
ولندع الشاعر التشيليَّ "بابلو نيرودا" يروي لنا في مذكراته عن لقائه بالشاعر الخالد "فيديريكو غارثيّا لوركا" في "بونوس آيريس"، حيث أجرى لهما أدباءُ الأرجنتين حفلة تكريم في أحد النوادي هناك؛ "لقد بادَرْنا الحضورَ بمفاجأةٍ أدهشتُهم، كنّا حضّرنا خطاباً على التناوب أي على اللَّيمون (al alimón). أعتقد أنّ الكثيرين من القرّاء لا يعرفون معنى العبارة، وأنا كذلك لم أكن أعرفه ولم أكن قد سمعت بهذه العبارة من قبلُ، ولكنّ فيديريكو، الذي كان دائما مليئاً بالإبداعات والأُملوحات والنوادر والخواطر شرحَ لي ذلك فقال: "اثنان من مصارعي الثيران يصارعان في الوقت نفسه وبدثار واحدٍ وحيد. إنّ هذه الطريقة في المصارعة هي أخطر تجربة في فن مصارعة الثيران، ولذا فقلّما تُرى في حلبات المصارعة. لا تُرى إلا مرة واحدة أو مرتين كل القرن، ولا يمكن أن يؤدّيها إلا مصارعان شقيقان، أو أنّ لهما دماً مشتركاً، وهذا ما يُسمّى عندنا في إسبانيا بالمصارعة على الليمون، وهذا ما سنقوم به أنت وأنا في خطاب نُلقيه على المحتفلين بنا".
وهذا ما صنعناه، وما من أحد من الحضور كان يعرف هذا الأسلوب في المصارعة أو المخاطبة. حين وقفنا لنشكر مديرَ النادي على التكريم، فإننا نهضنا معاً في الوقت نفسه كأننا مصارعا خطاب واحد، بما أن الوليمة قد قُدّمت على موائد صغيرة منفصلة، بعضها يبعُد عن بعض، فإنّ فيديريكو كان في طرف وأنا في الطرف الآخر، ولهذا فإن الجالسين قربي كانوا يشدّونني من طرف سُترتي معتقدين أنني على خطأ وأنّ المتكلّم الآن هو فيديريكو، والشيء ذاته جرى لفيديريكو في الطرف الآخر من القاعة. شرعْنا في الوقت نفسه بالخطاب فقلت أنا: "سيداتي" وتابع فيديريكو قائلاً: "وسادتي"، وهكذا أخذْنا نتناوب الكلامَ فتتشابكُ جملُنا إلى درجة أنّ هذه الجملَ بدت وكأنها نصٌّ وحيد متناسق مترابط إلى أن ختمْنا كلامنا".

اقرأ أيضاً: خطيئة التقصير

كلما سمعت عبارة على الليمون (al alimón) أتذكّر أُغنية كانت تغنيها والدتي وهي تكنس أو تغسل الصحون والأواني وهي "على الليموني الليموني يا عبد الله". وأنا أستحضر الآن تلك الأغنية وتلك الذكرى أتساءل: لماذا لم يكن عبدُ الله والدي يلبّي غناءها ويستجيب لندائها فيقوم ليساعدها في عملية الكنْس وغسْل الصحون وغير ذلك من أعمال البيت في تناوب منسجم وَوِدٍّ عائليّ على نغم: "على الليموني الليموني يا عبد الله"؟ ولكنْ، لعلّه لم يكن يعرف معنى العبارة أو لعلّ والدتي بأغنيتها هذه كانت تحثّه وهو جالسٌ قربها ينفث دُخان تبغهِ ويرشف فنجان قهوتهِ على أن ينهض لِتَوّه ويذهبَ إلى بيّارتنا في فلسطين لكي يقطفَ البرتقال والليمون ويجني خيرات أرضنا وهو يغني: "على الليموني الليموني يا عبد الله".
لعلّكم الآن تسمعون أمّهاتكم أو زوجاتكم يغنّين هذه الأغنية .

مِهْرَجانُ الْكِتابِ

قال لي صاحبي الأَديبُ الإسْبانيُّ "أنطونيوغرانادوس" ونحن قابِعانِ في زاوية مقهى شهير من مقاهي مدريدَ الكثيرة: "هل تقيمون أنتم العربَ مِهْرَجانا سنويّا للكتاب كما نفعل نحن الإسْبانَ"؟ فأجبْتُه بعد تَلَكُّؤٍ بأَنْ لا. فقال:"أَحسنتم صُنْعًا". قلت
وَكَيْفَ!؟ قال:"حَتّى لا تَبْتَلَّ الكتب بالمطر". ثمّ أضاف موضِّحًا:"إنّنا نقيم كلَّ عام مِهْرَجانًا للكتاب خلالَ شهر مايو/أيار؛ وأثناءَ المِهْرَجانِ تَهْطُلُ الأَمطارُ في غَزارة شديدة على نحو دائم، فتبتلّ الكتب وتكسد البضاعة وتفسد التجارة حتّى إنَّ الكتاب عندنا أَصبح رمزا للحظِّ التعيس جِدّاً وحتّى أإنَّ الناسَ أخذوا يتشاءمون من هذا المِهْرَجان ويردّدون مثلًا أصبح شائعًا في اللغة الإسبانيّة، وهو: "إنّ حَظّي مثل حَظِّ الكتاب"؛ ولذلك خَطَرَت على بال القائِمين بهذا المِهرَجانِ فِكْرةٌ جديدة، وهي أَنْ يُقامَ قَبْلَ حلول المَوْعِد المُقَرَّر المُكَرَّر وفي مكان آخر، هو مقابل هذا المقهى الذي يحتوينا الآنَ، مَعْرِضٌ ثانٍ للكتاب القديم الذي هو عادةً أقلُّ ثمنًا من الكتاب الجديد، علَّ السماءَ ترحم فتمنع سحبها أن تذرف دموعها وتسكب مياهها".
وأَمْسِ سطعت الشمس بعد عدّة أَيّام من احتجابها وراء السحب القاتمة الباكية على حظّ الكتاب المبتلّ، فأسرعْتُ نحو الحدائق الجميلة حيث يقام مِهْرجانُ الكتاب كي أَتَفَرَّجَ أو أشتَرِيَ ما تسمح به الكنزيّة (كلمة عربيّة الأَصْل مستعملة باللغة الإسبانيّة وبخاصّة في بلدان أميركا اللاتينيّة بمعنى المطمورة أو الجعبة) من شراء بعض الكتب الجديدة القيّمة بالمعنَيَيْنِ المعنويّ والمادّيّ، قبلَ أن تعود عيون السماء للبكاء. وما أَنْ وصلْتُ إلى أَوَّلِ مَوِضِع خشبيّ مُقام للبَيْع من الدكاكين المصطّفّة على صفَّيْنِ طويلَيْنِ وبَيْنَهما مَمَـرٌّ أحتشد الناس فيه ينظرون أو يشترون أو ينتظرون أديبًا معروفًا حتّى يُوَقِّعَ لهم على النسخ التي يبتاعونها، حتّى فاضت أنهار وأنهار لتصبَّ على رؤوس الناس وعلى صدور الكتب فاحتجب الناس احتجاب الشمس واختفت الكتب اختفاء بائعيها نادبِةً حَظَّها التعيسَ؛ وفيما أنا أبحث عن موضع أختبىء فيه وإذ بصاحبي أنطونيو يعدو مُهَرْوِلًا تحت المطر وتحتَ إبْطِه مجموعة من الكتب، وبين أقدامه بعضُها الآخرُ وقد سقطت منه فأخذ يركُلُها بقدمه علّه يجد الفرصة المناسبة السانحة كي يلتقط منها ما يستطيع فيضعها تحت إبطه الآخر؛ فهمَمْتُ بمساعدته، فرآني فأخذ يصيح بِأَعْلى صوته:"أحْسنتم صُنْعًا، أَيّها العرب!، إذ لا تقيمون مِهْرَجانًا للكتاب". إذّاكَ تَمَلَّكني شيءٌ من الحزن، فوقفت حائرًا، ثمّ صرخت أنا كذلك بأَعلى صوتي، ولكن باللغة العربيّة: ليتنا، نحن العربَ، نقيم مِهْرَجانًا للكتاب الجديد أو مَعرِضًا للكتاب القديم وَلْتَحرِقْ أوراقه شموس صحارينا بقيظها.

حب عذري

حب عذري هو عنوان قصيدة للشاعر الأندلثّي ـ بالثاء ـ (حتى نميّز بين "الأندلس" التي تعني "شبه الجزيرة الإيبيريّة كلّها بما فيها "البرتغال"، وبين "أندلُثيّا" التي هي المنطقة الجنوبية من "إسبانيا") ـ ألا وهو "فرناندو كينيونيس" الذي وُلِدَ في مدينة "قادش" التي تقع على "المحيط الأطلسي"، وقد بنى هذه المدينة الفينيقيّون.
وشاعرنا هذا، أصدر عدّة دواوين مضامينها وعناوينها عربية منها " أخبار أندلسيّة و "بن خاقان" وهاكم قصيدته الرائعة هذه:
" لقد قضيت الليل كلّه معها
مثل الجمل الذي تلجمه الكمّامة
في الجوع والظمأ،
إذ إنني لست كهذه البهائم التي تعتلف في المغارس.
غِبَّ الساعات الأوائل تعرّينا،
بيد أني كففت فيضانَ حواسّي
وقد كلّفني ذلك نصفَ حياة،
هي أدركت أنني لست عِنّيناً،
وإنما عفّة كعفّة "جميل بثينة" كانت تكفّني.
إذّاك أخذت تخفّف من حدّة النفَس الحبيس
وراحت تجفّف عرقي وترطّب حلقي بماء زلال وفاكهة نديّة،
واستلقت إزائي،
فيا لك من ليل آجِل عاجل!
ويا لك من وقت مضى وانقضى
والباءة لمّا تهمد.
حين انبثق الفجر، لم أعد أُغالب النفْس
فقد انزوت الغُلمة وارتمت في جوفي
كما البغلة في الحظيرة.
وهكذا نرى أن الشاعر "فرناندو كينيونيس" قد تمثّل الشعر العربي العذري وأنصف العرب حين تحدّث في شعره عن كبح جماح النفس الذي يمارسه العربي في حبّه على عكس ما يظنّ الكثيرون من الغربيين بأنّ حب العربي هو حب شهواني عاكف على اللذة، ولعلّ هذه الفكرة جاءتهم من كتاب ألف ليلة وليلة ومن أشعار عمر الخيّام. وكذلك نلاحظ أنّ هذا الشاعر، كغيره من الشعراء الإسبان، مولع بالكلمات ذات الأصل العربي لما لها من جرس جميل وقوّة دلالة. وبعدُ فهل يتعلّم شعراؤنا ذلك؟
المساهمون