أندريه مالرو.. وقرن صراع الأديان

13 يناير 2015

الكاتب الفرنسي أندريه مالرو (1901 - 1976) (Getty)

+ الخط -
ليست دقيقة، ولا حتى موضوعية تقريباً، التسميات التي وسمت قروناً بأكملها، محدّدة لكل قرن توصيفاً بعينه، كأن يقال، مثلاً، إن القرن التاسع عشر عصر الأيديولوجيا، والثامن عشر عصر الأنوار، والسابع عشر عصر العقل والأسئلة العقلية من زوايا شتى، والسادس عشر عصر المغامرات الكبرى والتجريب الجريء. وقبلها جميعاً، أُطلق على القرون الوسطى عصور تكريس الإيمان والمعتقدات اليقينية بمنطق الفكر الأحادي في ماهية خطابه الغيبي الذي يميل، أحياناً، إلى تشريع اللاعقلانية والأسطورة.
واضح أن هذه التسميات أطلقت على سبيل التأرخة الإجمالية للحقب الزمنية، وقد حدّدها (في الغرب خاصة) مؤرخون ودارسون وعلماء سياسة واقتصاد واجتماع، على سبيل الفرز السريع لبعض مزايا كل حقبةٍ، شهدها تاريخ المركزية الأوروبية، وليس تاريخ أي قارة سبقت أوروبا بالحضارة والتنوير البشري على اختلاف مناحيه.
وأكبر دليل على "بطلان" هذه التسميات، لناحية معناها الإطلاقي الشمولي، الاختلاف على توصيف القرن العشرين، فمن قائل، مثلاً، إنه عصر الذرّة وغزو الفضاء، إلى قائل إنه عصر الهزائم الكبرى (الحربان العالميتان 1914 و1945) و"سقوط الحضارة الغربية"، على حدّ تعبير أزوالد شبنغلر في العامين 1926 و1928، أو عصر الحرب الباردة التي انتهت بسقوط القطب الاشتراكي: الاتحاد السوفييتي في 1991.
وإذا ادّعينا مقاربة عقلانية للموضوع، قلنا إن كل عصر أو قرن هو عصر تحوّلات، أصلاً، يشتدّ فيه الصراع ويحتدم، خاصة بين القوى الكبرى ذات النفوذ العابر للقارات، ونظيراتها المتصدّية لها. وغالباً ما تنتهي الأمور بين الجانبين المتصارعين إلى تقاسم مضمر أو معلن، لجهة السيطرة على العالم، فضلاً عن القوى والتيارات المتصارعة الأخرى داخل البلدان المركزية نفسها وخارجها، بين التقليد والتحديث، والجمود والإصلاح، والحروب وصناعة السلام الزائف، الممهد لحروب همجية جديدة، أين منها حروب الهمجيات الأولى في العصور المسمّاة "خطأ" بالبربرية، خصوصاً أن أسلحة الفتك الجديدة باتت مع التطور العلمي المتسارع الأعقد والأنفذ، والأكثر تدميراً وإبادة.
هكذا في كل دورة حياتية جديدة ومتوالية تستغرق، لنقل قرناً، تتجدّد الصراعات "إياها" بين البشر، انطلاقاً من مداولاتهم الأيديولوجية والمصلحية في ميادين الاقتصاد والسياسة والفكر والتفلسف والمفاهيميات المتجددة، أو المجترحة على أنواعها... إلخ، ولا يتقدم أو يتطور في خط بياني واضح سوى العلم، أو المكتشفات العلمية والتكنولوجية. والعلم بذاته، وكما هو متعارف عليه، مسألة حيادية، بمنهجه وطرائقه، حتى وإن وُظّف العديد من منجزاته في أخطر الحروب، وأكثرها فتكاً وتوحشاً.
ونستدرك، فنقول إنه إذا كان عصر التنوير في القرن الثامن عشر هو عصر فاتحة ثورة علمية وأنوارية كبرى، انشبكت فيها أسئلة العلم بالفلسفة وسائر المعارف، وأنتجت تلكم القوة الدافعة الجديدة في الميدان العقلي، ولا سيما على يد كل من دالبير وديدرو وهولباخ... إلخ، إلا أن هذه الحركة التنويرية، وعلى رغم ما سجّلته من إنجازات علمية وفكرية وفلسفية مشهودة، سرعان ما تصدّى لها وبالنقد الجذري المحكم، مفكرون لاحقون، تبيّن لهم "خسفها" و"انحراف" عقلها المادي الصارم، البارد، من أمثال الفيلسوف الألماني، عمانوئيل كانت، خاصة في كتابه "نقد العقل الخاص" الذي دعا فيه إلى "فتح كوة للإيمان في قلب مساحة العقل".. والفيلسوف
 الإنجليزي إدموند بيرك الذي اعتبر "العقل الواقعي الصارم في أمور السياسة، وأنساق المفاهيم، محدوداً ومثيراً للشفقة".. والفيلسوف الفرنسي هيبولت تين الذي وجّه لوماً معرفياً قاسياً للثورة الفرنسية، باعتبارها "مسؤولة عن تسخيف وتبسيط العقل الكلاسيكي المجرّد، وتدمير كل منجزاته التي كانت متحركة فعلاً صوب التقدم".
ونفهم من كلام هيبولت هذا أن من الضروري للعقل الجديد لكي يكون جديداً حقاً، العمل الدائم على إبقاء التجاذب في صلب التوازن، في أثناء عملية التغيير الناضج والحقيقي، ذلك أنه ما من نظام كلي كيما يتم تغييره، أيّما تغيير، بمجرد إعلان الثورة عليه، وصنع قناعات جديدة وسريعة حول ثورته. هكذا، فكل من لا يحاول التفكير بكلا طرفي التناقض في آن معاً، لدى أي مجتمع يشهد صراعات بنيوية تاريخية وأيديولوجية معقدة، لا يمكنه أن يرسم، بالتالي، أرضية لتغيير ثوري ومفاهيمي ناجح، قوي ومتجذر في منطلقاته المستقبلية.
وما دمنا نتحدث عن العصور، وما أُلحق بها من تسميات تختزلها، فلا بدّ لنا من الحديث عن القرن الحادي والعشرين، والذي ما زلنا في مبتدياته جميعاٌ كجنس بشري، وفي هذا الإطار، يحضرني كلام لوزير الثقافة الفرنسي الأسبق، أندريه مالرو، في حوار أجريته معه في باريس في 1975 (أعدت نشر الحوار كاملاً في مجلة "الكفاح العربي" اللبنانية في مارس/آذار 1985 بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله) يقول فيه "إن القرن المقبل (يقصد قرننا الحالي) هو قرن الأديان والصراعات فيما بينها". ولما استفسرته عما كان يعنيه بكلامه المستهجن، وغير المتوقع وقتها، أجابني بالفم الملآن: "أقصد الأديان بما هي أقنعة سياسية لحروب مصالح الدول الاستعمارية المتشبثة بمصالحها في المناطق المستحوذة عليها. وسيستخدم الغرب الاستعماري هذه الترسانة الأيديولوجية كأمضى سلاح بين يديه لاحقاً، خصوصاً في الدول الإسلامية، الفقيرة منها والغنية، وكل بلد بحسب ظروفه أو تناقضاته السوسيولوجية وتكويناته الدينية والإثنية".
ولكن الغرب، يا سيد مالرو، سبق له واستخدم هذا السلاح، في أثناء استعماره المادي والمباشر لأغلب هذه الدول، خاصة في العالم العربي؟ سألته فأجابني على الفور، وحتى قبل أن أنهي السؤال: "صحيح أن على اللسان ألا يسبق الفكرة، كما يقول الصينيون، لكن إثارة الحروب الأهلية باسم الأديان، وحصاد مردودها السياسي والاقتصادي من جانب الغرب الاستعماري، ستظل، وفي مجملها، هي "الأيديولوجيا الإلهية" الأقوى والأنفذ لديه من أي أيديولوجيا بشرية مصيرها، بالتأكيد، البهوت والخفوت مع الزمن".
علام بنى أندريه مالرو حساباته، يا ترى، حين تنبّأ قائلاً إن القرن المقبل هو قرن الأديان؟ هل حدس بهذا مثلاً، عبر خياله الروائي الوسيع والمتجاوز؟ أم قال ما قاله نتيجة خبرته السياسية ومعلوماته وتحليلاته الاستراتيجية التي استقاها من موقعه صديقاً مقرّباً جداً من الجنرال ديغول، ووزيراً في حكوماته المتعاقبة حتى انسحابه (أي ديغول) من الحياة السياسية في عام 1969؟
سؤال لا ندّعي إجابة قاطعة عنه، وإن نرى في أغلب الظن أن مالرو كان يستند إلى خبرة سياسية نافذة، مشفوعة، طبعاً، بثقافة عميقة خوّض خلالها، طويلاً، في ثقافات الشعوب الشرقية وأديانها وتراثاتها الروحية، فضلاً عن "تخصصه بعلم اجتماع الأديان وعلم نفس الأديان"، على حد تعبير صديقه الفرنسي من أصل لبناني، بيار جورج كتاني.
لكن، ما لم يكن ممكناً أن يتوقعه مالرو هو انتقال "الحرب الدينية" الفائضة في الشرق الأوسط اليوم إلى قلب عاصمة بلده باريس، وأن نسمع، مثلاً، من رئيس فرنسي في القرن 21: فرنسوا هولاند، تعليقاً على الهجوم الدموي المستنكر على صحيفة "شارلي إيبدو": "أدعو جميع الفرنسيين إلى الوحدة الوطنية، ومواجهة كل من يريد تقسيم الشعب الفرنسي".. "علينا الوقوف صفاً واحداً في وجه الإرهاب".. "الدين الإسلامي لا علاقة له بالإرهاب"... وكلها عبارات لم نألفها من قبل من أي رئيس أوروبي، أو غربي عموماً. وبالقطع، هي عبارات تعودنا عليها، نحن العرب، في مجتمعاتنا المحتربة والمنقسمة على نفسها، أقله في لبنان.
A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.