بعد ما يقارب نصف قرن على ظهور نبأ قصيدة الهايكو في اللغة العربية بين سطور مقالة مترجمة للأستاذ الأميركي دونالد كين عن الشعر الياباني نشرتها فصلية "عالم الفكر" الكويتية في عام 1973 (المجلد الرابع، العدد الثاني)، وما توالى بعدها من ترجمات أو محاولات كتابة هايكو "عربية"، ثم تشكيل تجمعات وعقد ملتقيات، وصولاً إلى الوقت الراهن، ما زالت هذه القصيدة موضع تجربة هنا وهناك، يكتبها بعضهم، ويتصدّى بعض آخر لها بالتنظير، ترجمة أو رجماً بالغيب.
وباستقراء آخر الملتقيات التي تناولتها، بدءاً بـ"ملتقى بيت الشعر" في إفران المغربية (كانون الثاني/ ديسمبر 2017) وانتهاء بجلسة حوار عقدها "نادي أبها الأدبي" (آذار/ مارس 2018)، يبدو أن هذا الفن لم تدركه الأفهام بعد، ولم تتضح كينونته، ولا وصل خبره إلى الجمهور على نطاق واسع، بل وصل الأمر ببعض من أدلى بدلوه في بئر لم يعرف ماهيتها إلى القول إن في الشعر العربي ما يُغني عن هذا الفن، وكل شخص لدينا يستطيع كتابته.
الأعجب من كل هذا أن يصادف المتابع في اللغة العربية من يزعم في عام 2011 أن الشعر الياباني لعقود قليلة خلت لم يكن معروفاً بشكل واسع في الأوساط الثقافية العالمية، بل ولم تكن النماذج التي تمّت ترجمتها إلى اللغات الأكثر مقروئية ذات تأثير يذكر في الأدبين العربي والعالمي.
مصدر العجب أن هذه الأقاويل تصدر عن شاعر عربي لا عن متلقّط عابر في سوق الأدب يجهل أن أشكال هذا الشعر، وخاصة شكل الهايكو الأوفر حظاً بين أشكاله الأخرى، عبرت المحيطات وتنقلت من قارة إلى أخرى منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فألفته اللغة الإسبانية والإنكليزية ولغات أوروبا الشرقية، ولم تفلت من تأثيره لغات الهند (قرابة 22 لغة)، وخاصة البنغالية، حين قدمه إلى الثقافة الهندية الشاعر رابندرانات طاغور في عام 1916.
الأبرز في هذا التاريخ أن سنوات قريبة من أوائل القرن العشرين شهدت اطلاع الأميركي إزرا باوند على أبحاث المستشرق والناقد إرنست فنلوزا (1853-1908) في الثقافة اليابانية والأبجدية التصويرية الصينية كوسيط شعري، فأحدث هذا الاطلاع نقلة نوعية في الشعر المكتوب في اللغة الإنكليزية، نجمت عن التفات هذا الشاعر، وعدد من زملائه وزميلاته، إلى الهايكو اليابانية خلال سعيهم لتحديث فنّهم هم، فاتخذوا من مبادئ الشعرية اليابانية الجمالية وسائل لتحرير أنفسهم من تهاويم وتقاليد العصر الفيكتوري.
المقاربة العربية لم تتوقف عند هذا الزعم، بل تجاوزته في الغالب الأعم من الكتابات، إلا في ما ندر، إلى تقديم هذا الشكل الشعري إلى القارئ العربي، وهذا هو الأسوأ، مجرّداً من جوهره الحقيقي، أي أنه شعرٌ روحي منطلقه بوذية خاصة بالثقافة اليابانية تدعى بوذية الزن. وقاد هذا الإغفال، والإصرار عليه لدى بعض المترجمين العرب، حتى من ترجم عن اللغة اليابانية مباشرة، إلى إشاعة جو من الاستخفاف بهذا الشكل الشعري كما رأينا في نقاشات "نادي أبها"، وإلى خلط بينه وبين أنماط مما يدعى شعر "التوقيعة" أو "الومضة"، بل وحتى نمط السطرين المعروف في الشعر الشعبي العراقي باسم "الدارمي"، والذي ذهب بعضهم إلى نسبته إلى "السومريين" سكان جنوبي العراق القدماء.
في محاضرة له في عام 2013، عنوانها "جمال شكل الشعر الياباني الموجز"، توّج الأستاذ الأميركي دونالد كين، بعد عمر طويل قضاه في علاقة وثيقة بالثقافة اليابانية، جهده بكلمات شارحة ومُعرّفة بفن الهايكو، يلخصها قوله إن شعرية هذه القصيدة تتسق مع حروف اللغة اليابانية وفرادتها الممثلة بصوائتها في كل مقطع. كما أنها، مقارنة بالشعرية الغربية والصينية (ويمكننا أن نضيف مقارنة بالشعرية العربية)، لا تولي أهمية للتقفية، بقدر ما تولي اهتماماً عظيماً للإيقاع والمقطع والجناس الاستهلالي.
في هذا يتفق هذا الخبير، الذي بلغ من العمر عتياً في مناخ ثقافة اليابان، إلى درجة أنه اتخذ هذا البلد وطناً وحصل على جنسيته واتخذ اسماً يابانياً صار يعرف به، مع خبير آخر كان من أوائل مترجمي الهايكو إلى الإنكليزية هو هارولد هندرسن (1974-1889)، الذي يرى أن الهايكو في المقام الأول قصيدة، وكونها قصيدة فمعنى ذلك أن القصد منها التعبير واستثارة عاطفة. بل ويمضي إلى ما هو أبعد، فيسخّف القول الشائع القائم على اعتقاد أن الهايكو تهتم بالطبيعة أكثر من اهتمامها بالقضايا الإنسانية، أما الظواهر الطبيعية، مثل فصول السنة، فهي تستخدم لتعكس عواطف إنسانية.
في المقابل نجد أستاذاً آخر، ومن أوائل الباحثين والمترجمين هو ريجنالد بلايث (1964-1898)، يقدّم للناطقين بالإنكليزية رؤية تتمركز في بؤرة أخرى. الهايكو بالنسبة له، ووفق ما تكشف له طبعاً، تجربة روحية. يقول شارحاً: "حين نقرأ الهايكو ندرك أنها طريقة حياة، إنها تقدم نفسها إلى البشرية، ليس كبديل للمسيحية أو البوذية، بل كاكتمال لهما". بل ويجد تماهياً بين سمات بوذية الزن وسمات الشخصية اليابانية في مقالة له حملت عنوان "بوذية الزن والهايكو".
يقول عن اليابانيين إنهم أُخذوا إلى البوذية كما تؤخذ بطة إلى الماء. البطة لا تتحوّل إلى ماء، إنها طائر مائي، والمعنى أن اليابانيين كانوا بوذيين قبل أن تفد إليهم من الهند عبر الصين فكوريا. وكذلك الأمر مع الهايكو، فهي جواب حدسي يقوله أستاذ طريقة الزن، أو يوحي به إيحاءً، تماماً كما توحي به الهايكو. لهذا قيل كثيراً إن من يقرأ هذه القصيدة أو يسمعها ينتظره دور المشاركة في الإحساس بها وتمثلها. ولهذا أيضاً تبدو كلماتها نصف كلمات، أو "لا كلمات" بالمعنى المجازي.
هي إذاً حسب وجهة النظر هذه، ولها ثقلها بالطبع كما لوجهة النظر تلك، شكل خاص لشعر مختزل إلى الحد الأدنى يستخدمه أساتذة الزن، ذوو النزعة الصوفية، للإشارة مباشرة إلى "الواقع الذي لا اسم له". وفي ظلال هذه النزعة وصل هذا الشكل من الشعر الروحي إلى اكتماله في الهايكو.
يسأل راهبٌ الأستاذ فون-سو: "حين لا يكون الكلام والصمت مسموحاً بهما، كيف للمرء أن يمضي في طريقه بلا خطأ؟"، فيجيب الأستاذ:
"أتذكر تشياسو في شهر مارس
صرخة طائر التدرج
شذا الأزهار البرية!"
ثلاث صور متراكبة، ليست أفكاراً، بل هي صور موحية بأفكار، وحسناً فعل أحد المشاركين في أحد منتديات الهايكو حين انتبه إلى هذه الخاصية.
المتصوفة الشرقيون وحدهم دأبوا على التعبير عن معرفتهم بكلمات، مستعينين بالأساطير أو الرموز أو الصور الشعرية أو المفارقات، وهم على وعي تام بمحدودية اللغة وطرائق التفكير التقليدية. والهايكو نمط تعبير صوفي من هذا النوع.. لا أكثر ولا أقل. له جمالياته التي يعدّها بعض الدارسين شعرية خالصة، إلا أن له مستوى أعلى من الجمال ذاته، هو ما عناه الشاعر الألماني هولدرلن حين قال إنه يكتب شعراً يعود على البشر بالشفاء.. الروحي بالطبع.