أصرّ وزير الداخلية السوداني عصمت عبد الرحمن، على أنّ "القانون يمنع منح الجنسية لمن كانت والدته سودانية ووالده جنوبي"، مبرراً بذلك ما تتخذه وزارته من إجراءات مجحفة بحقّ كثيرين. جاء ذلك في تصريح مقتضب أدلى به لـ"العربي الجديد".
لم يكن عادل برعي يعلم بأنّ محاولة استخراج الرقم الوطني لأبنائه سوف يكلفه وظيفته ويجرّده من حق المواطنة السودانية، ليبدأ سلسلة طويلة من الإجراءات بغية الإثبات أنّه سودانيّ بعدما رفضت السلطات المعنية في الخرطوم الاعتراف بسودانيّته ومنحه وأبنائه الجنسية.
بعد انفصال جنوب السودان وإقامة دولته المستقلة، واجه آلاف الجنوبيّين أزمة الجنسية، لا سيّما الذين ولدوا لأمّ سودانية وأب جنوب سوداني. وقد سلك بعضهم طريق المحاكم من دون تحقيق أيّ شيء. وهذه حال عادل، الذي ولد لأمّ سودانية فيما ظهرت أصول جنوب سودانية لدى جدّه الرابع الذي يُدعى "دينق"، وهو اسم جنوبي، على الرغم من أنّ والده وأجداده الثلاثة ولدوا وترعرعوا في منطقة أمّ درمان في العاصمة الخرطوم.
خلال محاولته استخراج الرقم الوطني لأبنائه، وما إن انتبه الموظف لاسم جدّه الرابع "دينق"، أعلمه بأنّه لا يحقّ له الحصول على الجنسية. فشلت كلّ محاولاته لإقناع الموظف بسودانيته وسودانيّة أبنائه. بعد ذلك، وجّهت السلطات رسالة إلى مقرّ عمل عادل، تفيد بأنّه "أجنبي". بالتالي جرى فصله من وظيفته، هو الذي كان يعمل رئيساً للسائقين في أحد مستشفيات الخرطوم. شعر باليأس والإحباط، وأراد البحث عن وطن. فلجأ إلى سفارة جنوب السودان في الخرطوم لاستخراج الجنسية الجنوب سودانية، حتى لا يصبح بلا هويّة. لكنّه فوجئ هناك برفض السفارة منحه الجنسية، بعدما فشل في اختباراتها. فهو لم يعرف اسم سلطان منطقة عائلته في الجنوب، ولا سيّما أنّها هجرت الجنوب قبل أكثر من نصف قرن. هكذا، أصبح بين ليلة وضحاها من دون هوية ومن دون وطن.
من جهتها، أُجبِرت ليلى على ترك دراستها بعدما فشلت في تأمين تكاليف الدراسة التي تأتي بالدولار الأميركي للطلاب الأجانب، على الرغم من أنّ والدتها سودانيّة الأصول فيما والدها جنوبي. وتخبر الشابة أنّها لم تتمكّن من الخضوع إلى امتحانات منذ عامَين، لأنّها لا تملك أيّ أوراق تثبت سودانيّتها. فالسلطات رفضت منحها الرقم الوطني والجنسية، إذ إنّ والدها جنوبي. إلى ذلك، لا تحمل ليلى الجنسية الجنوبية، وتقول: "حتى لو حصلت على هذه الجنسية، إلا أنّ إكمال دراستي مرهون بدفع مبلغ مالي كبير وبالعملة الصعبة، في حين أنّنا في الأساس أسرة بسيطة بالكاد تؤمّن لقمة العيش".
متابعة قضائية
في محاولة لتصحيح أوضاعهم، لجأ أشخاص مولودون لأمّ سودانية وأب جنوب سوداني إلى القضاء لاسترداد حقّهم. ويقول المحامي رفعت محمد، الذي يمسك بملفات عدد من هؤلاء، إنّ ثمّة قضايا عدّة رفعها ضدّ وزارة الداخلية على خلفية رفضها منح الجنسية لمن هم في مثل حال هؤلاء، وإصرارها على معاملتهم كأجانب. ويشير لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "انعكاسات ذلك السلبية طاولت الصحة والتعليم وما إليهما"، مؤكداً على أنّ "القانون والدستور الانتقالي للبلاد يمنحان كلّ مولود لأمّ سودانية وأب أجنبي حقّ الجنسية". يضيف: "لا نعلم لماذا تمنح الداخلية الجنسية لأبناء المتزوجات من جنسيات أخرى غير جنوب السودان. يبدو أنّ الحكومة السودانية أصبحت حساسة تجاه الجنوبيين عقب قرار الانفصال. ففي الوقت الذي تصرّ على معاملة الجنوبيين كأجانب، تقوم باستثناءات لصالح اليمنيين والسوريين الذين لجأوا إلى البلاد، في ما يتّصل بمعاملة الأجانب ودفع الرسوم الدراسية بالدولار (160 دولاراً)، إذ إنّهم من مناطق حرب".
تجدر الإشارة إلى أنّ محمد هو وكيل عادل برعي، ويشير إلى أنّ "القضية هي في الاستئناف حالياً، في حين يعيش الرجل حياة قاسية، إذ لا يملك أيّ جنسية".
حملة لنصرة "المظلومين"
وسط الوضع القاتم وبطء الإجراءات القانونية وفشل بعضها في تحصيل حقّ "هؤلاء المظلومين" ومنحهم الجنسية السودانية أسوة بغيرهم من الأجانب، أطلقت مجموعة من الناشطين حملة تحت عنوان "أنا سوداني"، لنصرة حقّ الجنسية للمولودين لأمّ سودانية وأب جنوب سوداني. بالنسبة إلى الحملة، فإنّ الداخلية خالفت بخطوتها تلك، دستور البلاد الذي ينصّ في المادة السابعة منه على هذا الحقّ، وخالفت كذلك قانون الجنسية السودانية الذي نصّ على أن "يكون الشخص المولود من أمّ سودانية بالميلاد، مستحقاً للجنسية السودانية بالميلاد متى ما تقدم بطلب لذلك".
إحسان عبد العزيز، عضو في الحملة، تقول لـ"العربي الجديد"، إنّها "أُطلقت وقد شعرنا بالمعاناة التي يواجهها أبناء الأسر المولودين لأمّ سودانية وأب جنوب سوداني، في ما يتعلق بالجنسية". وتشير إلى أنّ "امتناع السلطات المعنية باستخراج الرقم الوطني والجنسية عن القيام بواجبها تجاه مئات الأطفال في مختلف ولايات السودان، هو أمر يؤدّي إلى تحطيم مستقبلهم وضياع الأبناء وحرمانهم من حقّ المواطنة ومن الدراسة بسبب معاملتهم كأجانب". وتؤكد أنّ "الأمر تسبّب في أضرار كثيرة ودفع بأسر عدّة إلى إخراج أبنائها من المدارس نظراً إلى ضيق ذات اليد". وتتحدّث عن "أوضاع نفسية قاسية يعانيها خصوصاً من حُرم من المنافسة في الجامعات، على الرغم من حصوله على درجات عالية. يُضاف إلى ذلك ما يواجهه آخرون من مشكلات في العمل". وتوضح عبد العزيز أنّ "تلك الممارسات تنتهك حقوقاً مستحقة للأمهات السودانيات اللواتي تزوجنَ بجنوبيين"، داعية "رجال القانون والمنظمات المختلفة والإعلاميين وكلّ الشرائح السودانية إلى تشكيل رأي عام قوي لمواجهة الخطوة ورفض التمييز".
إلى ذلك، يرى البراق النزير، وهو من المدافعين عن حقوق الإنسان في السودان، أنّ "لخطوة الحكومة علاقة بالسياسة، إذ هي بطاقة ضغط لتمرير أجندات سياسية معيّنة. وهذا ما يمثّل انتهاكاً لحقوق هؤلاء المولودين لأمّ سودانية وأب جنوبي وللقانون الدولي الذي يقول بحقّ الجنسية لكلّ من تربطه علاقة دم بأرض ما". ويؤكد على أنّه "من باب أولى منح الجنسية للجنوبيين الذين تثبت صلتهم بالجزء الشمالي، نظراً إلى العلاقات التاريخية وحياتهم في الشمال".