ودّع المشاركون في وفود رسمية في أعمال القمة العربية الثامنة والعشرين، والإعلاميون العديدون الذين تقاطروا إلى التظاهرة السياسية الرفيعة، شواطئ البحر الميت، وفي خواطر كل منهم انطباعاته عما سمع وشاهد، وخصوصاً بشأن كلمات القادة العرب في جلسة العمل الأولى لاجتماعهم، في القاعة ذات الفخامة المهيبة في مركز الحسين بن طلال في مركز المؤتمرات.
وكان منها كلمة أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، التي حازت إعجاباً ظاهراً، وامتداحاً خاصاً، من أوساط سياسية وإعلامية عربية واسعة، ليس فقط لإحاطتها الوافية بمجمل القضايا الملحة في الراهن العربي الصعب، وإنما أيضا لأنها كانت بالغة الصراحة في تعيينها الأسباب التي نجمت عنها مختلف الأزمات الحادة التي تعصف بغير بلد عربي، فضلا عن أن القضية الفلسطينية تقدَّمتها، وأن حديث الشيخ تميم عن مسألة الإرهاب جاء الأكثر تحديداً في توصيفها، وفي تسمية الأشياء بمسمياتها في خصوص المعالجات الأمنية وغيرها لهذه القضية.
وقال إعلاميون عرب شاركوا في متابعة أعمال القمة العربية، لـ"العربي الجديد"، إن كلمة أمير دولة قطر جاءت مرافعةً مكثفةً باسم المواطنين العرب في مجمل التحدّيات التي تمر بها الأمة، كما أنها توفرت على التشخيص الأدق للأزمات الحادثة في غير بلد عربي، فلم تلجأ إلى الكلام العمومي، ولا إلى الإنشائيات التقليدية، مع حفاظها في الوقت نفسه، على المقتضيات البروتوكولية، وعلى الاحترام المؤكد لأي اجتهادات وتصورات في الصالح العام.
ولعلها من المناسبات النادرة التي يخاطب فيها زعيم عربي أشقاءه القادة العرب بمثل الصراحة التي تبدّت في قول الشيخ تميم إن الاختلافات في رؤاهم ومواقفهم تجاه بعض القضايا السياسية التي تواجه الأمة العربية، أدت إلى آثار سلبية على مجالات التعاون الأخرى، غير السياسية، "ما يبيّن أن المشكلة لا تكمن دائما في الاختلاف نفسه، بل في كيفية إدارته، وفي إسقاط الخلاف السياسي على كل ما عداه".
ومن ينكب على دراسة وثائق العمل العربي المشترك وأدبياته، في مجالات التعاون البيني في الاقتصاد والتعليم، مثلا، يجد دلائل وفيرة على هذه الحقيقة، ولا سيما أن أمير دولة قطر أتبع إشارته هذه بقوله: "والحقيقة أننا قادرون على توحيد الرؤى ومواجهة مختلف التحديات وتجاوز الأوضاع الراهنة، فلا توجد اختلافات أو خلافات تستعصي على الحل بين الأشقاء. وحتى إن وُجدَت، على الرغم من كل الجهود، فلا يجوز أن تؤثّر على مجالات التعاون التي تهم مواطنينا ومجتمعاتنا". ويبقى أن تكون الرسالة في هذا الحديث الواضح قد وصلت إلى من يجب أن تصل إليه.
ومع المقدمات البادية، والتي صار يستشعرها المراقب للتداول السياسي العربي والدولي في الموضوع الفلسطيني، والتي تفيد بأن مساعيَ يتم بذلها، من غير بلد عربي، باتجاه دفع الفلسطينيين إلى مفاوضات تسوية مع إسرائيل، فقد أكدت الكلمة التي سمعها القادة العرب، ضرورة العمل من أجل حمل إسرائيل على "الدخول في مفاوضات جادة، ترتكز على أسس واضحة، وجدول زمني محدد، وليس مفاوضات من أجل المفاوضات، بهدف الإرباك وإضاعة الوقت أو استغلاله في الاستيطان".
وقد أشاعت كلمة أمير دولة قطر في القمة، لدى الجمهور الفلسطيني عموماً ارتياحاً بالغاً، لاشتمالها على وجوب توحيد الصف الفلسطيني، والذي اعتبرته الكلمة "ركيزةً أساسية في إنهاء الاحتلال"، حيث إنه "لا معنى ولا جدوى للخلاف على سلطة بلا سيادة في ظل بقاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية، فلن تقوم دولة فلسطينية بدون غزة ولن تقوم دولة في غزة".
ومن المعلوم أن الدوحة تواصل منذ سنوات جهوداً من أجل إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني الشاذة، الأمر الذي جاءت عليه الكلمة، فقد قال الأمير: "لا تزال دولة قطر تواصل جهودها المبذولة لإنهاء حالة الانقسام لإعادة الوحدة للعمل الوطني الفلسطيني، وفقاً لاتفاقيات الدوحة والقاهرة". ودعا "جميع القيادات الفلسطينية إلى التحلي بالحكمة، وتغليب المصلحة الوطنية العليا لإنهاء حالة الانقسام، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تقوم بإنجاز المهام الدستورية والتنفيذية، لاستعادة الوحدة الوطنية، بما يمكّن الشعب الفلسطيني من تحقيق تطلعاته المشروعة في الحرية والاستقلال وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية".
أما في الموضوع السوري، والذي تفادى البيان الختامي للقمة العربية تعيين المسؤوليات بسبب الحالة الكارثية الحادثة فيه، وتحاشت كلمات قادة عرب كثيرين الصراحة المطلوبة في شأنه، فقد انفردت كلمة أمير دولة قطر بتذكير الجميع بأنه "لا يجوز أن يغيب عن بالنا أن الشعب السوري لم يتشّرد بسبب كارثة طبيعية، بل لأن نظام الحكم شن عليه حربا شعواء شاملة في سابقة تاريخية، لمجرد أنه عبّر عن تطلعه إلى الحرية والكرامة، محولاً ثورته السلمية إلى حرب أهلية. ولذلك، لا يمكن الفصل بين واجبنا الإنساني والسياسي تجاه هذا الشعب".
وإذا كان التأزم السياسي الظاهر في ليبيا قد حضر في كلمات قادة عديدين، ونص "إعلان عمّان"، وهو البيان الختامي للقمة على الحوار سبيلا إلى حل هذا التأزم، فإن كلمة الشيخ تميم بن حمد اشتملت على أعلى قدر من الصراحة اللازمة في هذا الشأن، وجاء فيها: "يتعيَّن على بعض الأشقاء في ليبيا التخلي عن تقديم الذرائع، لامتناعهم عن المشاركة في الحل السياسي النهائي، بسبب الاختلاف في الرأي والمصالح الشخصية والخلافات على الزعامة والنرجسيات على أنواعها. فلا يجوز أن تقف هذه الأمور عائقا عندما يكون الحديث عن مصير بلدهم".
وإذا كانت كلمات بعض الزعماء العرب قد استطردت كثيرا وأسهبت في الحديث عن تحدي الإرهاب، وهو موضوع على قدر بالغ من الأهمية، إلا أن معظم هذه الكلمات ذهبت إلى توصيف عائم للمسألة، وللخطورة التي يمثلها الإرهاب على البلدان والمجتمعات والأوطان، وهو ما لا نقاش فيه ولا خلاف، غير أن للملاحظتين اللتين أوضحهما أمير دولة قطر في كلمته في هذا الخصوص أهمية خاصة، ولا سيما أنها المرة الأولى التي يتم قولهما بما يلزم من صراحة ومسؤولية.
وأولى الملاحظتين أنه "إذا كنا جادّين في تركيز الجهود على المنظمات الإرهابية المسلحة، هل من الإنصاف أن نبذل جهدا لاعتبار تيارات سياسية نختلف معها إرهابية، على الرغم من أنها ليست كذلك. وهل هدفنا أن نزيد عدد الإرهابيين في هذا العالم؟". وفي وسع المراقب للمشهد العربي العام أن يرى، بغير جهد كثير، ممارسات كثيرة تتورط في اتباعها حكومات وأجهزة وسلطات عربية، تستسهل رمي من يختلف معها في المنظور السياسي بتهمة الإرهاب، الأمر الذي يتسبب باحتقانات وتأزمات سياسية غير هينة. وقد أوضح أمير دولة قطر، أن مكافحة الإرهاب "قضية استراتيجية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية، وبالطبع أمنية أيضا، وهي أخطر من أن نخضعها للخلافات والمصالح السياسية والشد والجذب بين الأنظمة"، ما لا يعني أبداً، بطبيعة الحال دفاعاً عن أحد، أو أي جهة أو جماعة، وإنما هو التنبيه إلى الحقيقة التي لا يليق إغماض الأعين عنها.
أما الملاحظة الثانية، فهي أن الإرهاب لا يقتصر على دين أو مذهب بعينه، "فثمة مليشيات إرهابية من مذاهب مختلفة ترتكب جرائم ضد المدنيين والمرافق المدنية لأهداف سياسية بعلم وأحياناً برضى حكوماتهم. وهذا هو الإرهاب بعينه".
وفي المجمل، فإن الخلاصات المحكمة التي بسطها أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد، في كلمته أمام القادة العرب، ورؤساء الوفود إلى القمة العربية في البحر الميت، عبرت عن قناعات لدى المواطن العربي في الشؤون التي جاءت عليها، وهو ما دلت عليه لاحقاً الارتسامات والانطباعات التي أجزلت تقديراً كبيراً لما اشتملت عليه الكلمة من مبدئية في القضية الفلسطينية والمسألة السورية وقضية الإرهاب وغيرها.