أميركا vs أوروبا: الأفلام كصناعة أو الأفلام كفنّ؟

15 يناير 2019
من فيلم "الختم السابع" لـ إنغمار بيرغمان (Imdb)
+ الخط -
لا أحد يستطيع أن يفلت من بريق السينما الأميركية، فهي موجودة في كل مجلة وصحيفة وموقع إلكتروني. ولكن، من جهة أخرى، فإن السينما الأميركية -الأكثر دعائية عادةً- هي في معظمها سينما متوقعة، ولها نمط واضح. فيوماً بعد يوم، هوليوود لا تصنع أفلاماً جديدة، بقدر ما تعيد إنتاج أفلامٍ قديمة. وخلال العصر الذهبي لاستوديوهات هوليوود، أنتجت أميركا الكثير من الأفلام البارعة، على الرغم من أن الأعمال في تلك الفترة مقيدة بحدود الأيديولوجية المحافظة. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، نرى أن الأفلام الأميركية قد صارت أفلام بلوكبستر، تصنع بشكل موجه للفئة العمرية الأقل من 25 عاماً، بهدف التسلية، من دون أن تحمل في طياتها مقترحات فنية لافتة.
منذ فترة طويلة، ونحن نشهد تصدر أفلام هوليوود قوائم أكثر الأفلام مشاهدة وأكثر الأفلام وصولاً وشعبية في جميع أنحاء العالم، ولكن هل هذا يعني أنها الأفضل؟ هل هذا يجعلها ذات قيمة فنية حقيقية؟ أم مجرد وسيلة للترفيه والتسلية؟
لو درسنا الموضوع من ناحية التعريف، فسنرى أن هناك عوالم بأسرها تفصل بين الفيلم الأوروبي والفيلم الأميركي. في الواقع، فإن غالبية الأفلام الأوروبية توصف بأنها أفلام ذات قيمة فنية في أميركا وتصل فقط إلى جمهور محدود في المناطق الحضرية الكبرى.
حتى في أوروبا، تهيمن هوليوود على السينما. تقريبًا، 80٪ من الأفلام المعروضة في دور السينما الأوروبية تكون من إنتاج استوديوهات هوليوود. حتى في بلدان مثل فرنسا، تواصل الأفلام الأميركية هيمنتها. السبب هو أن هوليوود تتفوق في الترفيه. على مر السنين، طوّرت هوليوود هيكلاً تنظيمياً مسرحياً تفصيلياً نجحَ بشكل عام في سرد القصة. وبحسب صموئيل غولدوين: "الترفيه هو صنعة الأفلام، أما لو كانت لديك رسالة ترغب في إيصالها، فعليك باستخدام ويسترن يونيون"، وهنا مكمن الفرق.
فبينما يبدأ أي فيلم أميركي بسردِ قصة رجل يهرب من المافيا، يبدأ الفيلم الأوروبي بسرد قصة أمٍ عازبة قد طردت لتوّها من شقّتها، ومن بداية الفيلمين، يمكننا أن ندرك أن الفيلم الأوروبي يحمل في طيّاته رسالة أو رؤية نقدية. ولفهم اتجاهات صناعة الأفلام والسينما في القارة الأوروبية والقارة الأميركية، فإنه يتوجب علينا أن نعود إلى الماضي قليلًا، إلى اللحظات الأولى التي اختُرعت فيها السينما.


باختراع توماس إديسون ودبليو كيو دي ديكسون الكينتوفون (المعروف أيضاً باسم إديسون الكينيتوفونوغراف) فقد قدّما للناس شكلاً فنياً جديداً. ولو بقي هذا الاختراع في أميركا، لكانت صناعة الأفلام قد تطورت في اتجاه مختلف تماماً. وبالنسبة إلى البعض، فإن مجرد التفكير في هذا السيناريو يعد مخيفاً.
في تلك الفترة نفسها، شاهد لويس لوميير أحد أشكال الجهاز نفسه في باريس عام 1894 وبعدها انطلق في العمل على تحسين فكرة الجهاز، ما قاده لاحقًا لاختراع "صناعة السينما"، وأصبح لتطور هذا الفن بعدها مكان في أوروبا. كانت النظرة الأوروبية إلى صناعة السينما نظرة عميقة؛ ففي قارة ذات تاريخ ثري وتراث فني قديم، بشرت صناعة السينما بعصر جديد. اعتبرت السينما طريقة جديدة لتسجيل التجربة الأوروبية. فاتجه الناس الذين وقعت أيديهم لأول مرة على الكاميرات والمعدات مباشرة نحو الصنعة. كان جورج ميليس أكثر الناس تأثيراً في الأيام الأولى للسينما. كان معظم صانعي الأفلام الوحيدين فنانين بشكلٍ أو بآخر، واعتبر هؤلاء التكنولوجيا الجديدة مساوية لأشكال الفن الموجودة مُسبقًا أو حتى أقوى وأكثر تأثيرًا منها.
على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، بدأ إديسون بعرض اختراعه الجديد. اصطف الناس ودفعوا المال للنظر في ثقب الباب في جهازه. أما في باريس، فحوّلت المقاهي إلى أول دور عرض سينمائية مكتملة المشاهدين.
الطاقة والحماسة الموجودتان في أميركا النامية في ذلك الوقت كانتا الدافع المباشر لتطوير السينما كشكل من أشكال الترفيه. لم يكن لأميركا وقتها الكثير من التاريخ الذي بحاجة إلى تسجيل أو تأريخ، وبدون العبء الثقيل لقرون طويلة من تاريخ لتنعكس فيها، شرعت أميركا في استخدام هذا الاختراع الجديد لتسلية الناس. وبمجرد تعديل إديسون اختراعه وجعل عرض الأفلام للجمهور ممكناً، قفز الكثير من رواد الأعمال وتبنّوا العمل عليهِ. رأوا في هذا الاختراع وسيلة لجمع المال، وأرادوا أن يكونوا من الأوائل في المجال. صارت هناك شركات إنتاج سينمائية تتأسس يوميًا ومتنافسة في ما بينها راغبة في جذب انتباه الجماهير. انتشرت الأفلام بشكل كبير وقتها، وكان كل فيلم أكثر إثارة من سابقهِ. انتشرت الأفلام في جميع أنحاء أميركا، وغالبيتها كانت تعرض كوسائل للترفيه للناس في الكرنفالات والمعارض. كانت الأفلام وسيلة خالصة للترفيه، وكانت هذه هي حماسة العالم الجديد.
بالعودة إلى أوروبا، كانت الدوائر الفنية هي التي أثرت في تطور شكل الفن. توافدت الجماهير لرؤية التكنولوجيا الجديدة، لكن مسؤولية أوروبا وإرثها القديم كان يجب أن يكونا حاضرَين في الانتاج. كان لا بد من تسجيل مشقات الإنسان ومشاعره وعواطفه. كانت الطبقات العاملة تكتسب حقوقًا وكرامة لأول مرة، عبر تسجيل هذه القضايا في الأفلام. صارت الجماهير ترى انعكاسها في الصور المعروضة على الشاشات.

"تبدو الأفلام مثل الحلم، مثل الموسيقى، لا يمكن لأي فن أن يلمس ضميرنا الإنسان مثلما تفعل السينما، فهي تخاطب مشاعرنا مباشرة، وتغوص في الزوايا المظلمة في أرواحنا"، يقول المخرج السويدي إنغمار بيرغمان.
في أميركا، وبالنظر إلى الأجواء التي كان يعيشها الناس هناك مطلع القرن التاسع عشر، كان يجب أن تكون الأمور مثيرة. قيل للأميركيين وقتها إن كل شيء ممكن وعليهِ فقد أرادوا رؤية ذلك (الحلم) في الفيلم. أراد الأوروبيون رؤية شخصيات مثل تلك الموجودة في أدبهم - شخصيات ناضلت وكافحت ضد الصعاب.
بعد أن تضاءل الحماس حيال الاختراع الجديد، بدأ صناع الأفلام في أوروبا العمل على تطوير شكل الفن. بدأ جورج ميليس ومعاصروه في اللعب بالكاميرا عبر اختراع لقطات خداعية وما شابه ذلك. كانوا يعاملون السينما مثل أي شكل فني آخر - كانوا يجرّبون فيهِ مثل تجريب الاتجاهات الجديدة في الفن أو الأدب.
كما قدم دي دبليو غريفيث مساهمات بارزة في رواية القصص من خلال استخدام تقنيات الكاميرا. ولا شك في أنه واحد من أكثر الناس تأثيراً في تاريخ السينما، مما حدا بشركته (بيوغراف)، أن تطلب منه الاهتمام بزيادة جماهيره عبر بيع التذاكر.

فوق الترفيه
طوال القرن العشرين وانتقالًا إلى القرن الواحد والعشرين، نظرت أوروبا إلى السينما كشكل من أشكال الفن ويمكنك التأكد من هذا بنفسك، فلو بحثت على الإنترنت عن أي مواقع بريطانية، وخصوصًا الصحف، فستجدها تضع الأفلام تحت تصنيف "Art/Culture"، أما المواقع الأميركية فستجدها تضع الأفلام تحت تصنيف الترفيه "Entertainment".
وغالبية الحركات والمدارس الفنية التي اعتبرت السينما فنًا، كانت قادمة من أوروبا مثل حركة الواقعية الجديدة والموجة الجديدة في السينما الفرنسية وموجة أفلام النوار وحركة دوغما 95 والتي تأسست على يد كل من المخرجين الدنماركيين لارس فون ترايير وتوماس فنتربيرغ. ومن هذا يمكننا أن نرى كيف يستمر الأوروبيون في تصدير السينما كشكل فني لا كشكل من أشكال الترفيه.

تفوّق أوروبا
تتفوق السينما الأوروبية على السينما الأميركية من ناحية القيمة والرسالة والإنتاج، فنرى مثلًا أن الأفلام الأوروبية تميل دائمًا إلى تجسيد صورة البطل على أنها شخصية ممزقة بدون هدف واضح وصريح وبنهاية مفتوحة غالبًا تترك المشاهد في حالة من الضياع، وتعطي مساحة واسعة لتفسير رموز الفيلم بحسب السياق الخاص لكل مشاهد، في حين أن السينما الأميركية تميل دائمًا إلى الوضوح في كل شيء، فنرى تقنيات التصوير واضحة وجلية، وكذلك شخصية البطل وهدفه وغالبًا ما تكون النهاية مغلقة ومعروفة ومتوقعة دون أن تعطي للمشاهد فرصة إشغال تفكيرهِ في حيثيات القصة أو حتى رموزها. وأيضًا من أهم معالم تفوق السينما الأوروبية على السينما الأميركية استخدام الجنس في المحتوى، فنرى مثلًا أن استخدام الجنس في السينما الأوروبية يكون له هدف وقيمة فنية مُعينة ورمزية فاحشة، أما في السينما الأميركية، فغالبًا ما يكون الجنس فقط بهدف الشهوانية وكسب المشاهدين، دون أي معنى حقيقيّ لهذه المشاهد. ختامًا، وخير دليل على تفوق السينما الأوروبية، هو أننا دائمًا ما نرى هوليوود تقوم بإعادة إنتاج الأفلام الأوروبية الناجحة وقلّما نرى العكس.
المساهمون