أميركا تتحسب لـ "حروب المستقبل" في الفضاء الإلكتروني

27 ديسمبر 2014

جانب من مبنى شركة سوني التي تعرضت للقرصنة (ديسمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

سلطت عملية القرصنة الإلكترونية التي تعرضت لها شركة "سوني بيكتشرز"، في وقت سابق من الشهر الجاري، وأنحت الولايات المتحدة اللائمة فيها على كوريا الشمالية، الأضواء، من جديد، على المخاطر المحتملة لأي حرب إلكترونية قادمة، يعتبرها خبراء أميركيون في الأمن القومي والدفاع أكبر خطر يتهدد الولايات المتحدة، اليوم، حتى أكثر من الإرهاب نفسه، محذرين، في الوقت نفسه، من "بيرل هاربر إلكتروني".
ومن المعروف أن الهجوم الجوي الياباني المباغت على ميناء بيرل هاربر العسكري الأميركي في جزر هاواي، في ديسمبر/كانون الأول 1941، والذي تسبب في إغراق وتدمير بوارج وسفن بحرية عسكرية أميركية عديدة، وتدمير أكثر من 188 طائرة مقاتلة، فضلاً عن تسببه في مقتل قرابة 2500 جندي أميركي، وجرح قرابة 1500 آخرين، كانت هي الذريعة الرئيسية التي استخدمتها الولايات المتحدة لدخول الحرب العالمية الثانية، رسمياً. وكان هجوم بيرل هاربر يعد أكبر هجوم يقع على الأراضي الأميركية، وذلك إلى حين وقوع هجمات سبتمبر/أيلول 2001، في نيويورك وواشنطن.

وكان قراصنة قد اخترقوا حواسيب شركة سوني مع اقتراب عرضها، في أعياد الميلاد الحالية، لفيلم كوميدي أنتجته بعنوان "المقابلة". ويحكي الفيلم بطريقة ساخرة خيالية قصة صحافيَّين يذهبان لإجراء مقابلة مع زعيم كوريا الشمالية، كيم جونج أون، وتجندهما الاستخبارات الأميركية بهدف اغتياله. ومنذ إعلان الشركة عن نيتها، صيف العام الماضي، عرض الفيلم، ثارت ثائرة كوريا الشمالية، معتبرة الفيلم إعلان حرب أميركية عليها.

وتسببت عملية القرصنة تلك في سرقة آلاف الملفات الإلكترونية ومسحها، وكشف طبيعة العقود التجارية التي توقعها الشركة مع عملائها، في مجال الأفلام السينمائية، فضلاً عن نشر القراصنة أفلاماً للشركة لم تعرض من قبل. وتقدر خسائر الشركة إلى اليوم، جراء الهجوم، بمئات الملايين من الدولارات، ما دفعها إلى التراجع عن عرض الفيلم، خصوصاً مع تهديد القراصنة بتفجير قاعات دور السينما الأميركية التي ستعرضه.
خطر حقيقي
في شهر يوليو/تموز الماضي، أصدر أعضاء سابقون في اللجنة التي كانت مكلفة بالتحقيق في هجمات 2011، تقريراً حول مخاطر تعرض الولايات المتحدة لهجمات إلكترونية، خلص، بناء على مقابلات تمت مع أعضاء حاليين وسابقين في الاستخبارات الأميركية، إلى أن الهجمات الإلكترونية تشكل "خطراً متصاعداً إن لم تأخذها الحكومة على محمل الجدِّ". ووصف التقرير الفضاء الإلكتروني بأنه "ساحة الحرب المستقبلية"، محذراً من أن "التاريخ يعيد نفسه (هجمات كارثية محتملة على مستوى هجمات سبتمبر 2001) في الفضاء الإلكتروني".
واضح أن ثمة إدراكا في الولايات المتحدة لمخاطر التعرض لهجمات إلكترونية كارثية. فمثلاً، حذر وزير الدفاع الأميركي السابق، ليون بانيتا، في عام 2012 من هجمات إلكترونية، يشنها "إرهابيون" على كمبيوترات التحكم بالمنشآت الكيماوية والمائية والكهربائية، فضلاً عن تلك التي تتحكم بالمواصلات. وحسب بانيتا، فإن الأجهزة الأميركية المختصة "تعرف عن وقائع محددة أين نجح متسللون في أن يدخلوا إلى أنظمة التحكم"، وأضاف "نعلم أنهم يحاولون تطوير أدوات متقدمة، ليهاجموا هذه الأنظمة، ويتسببوا بحالة من الهلع والدمار، وحتى قتل الناس". وشرح أن مثل هذه الهجمات، لو وقعت، قد تتسبب بخروج القطارات عن سككها، أو تلويث المياه، أو حتى إعطاب أنظمة التحكم بالطاقة والكهرباء.
ونتيجة لهذا القلق الرسمي، والذي وصفه مدير المخابرات الوطنية، جيمس كلابر، بأنه "أكبر تهديد لأمننا القومي"، فإن إدارة الرئيس باراك أوباما طلبت من الكونغرس في ميزانية عام 2014 زيادةً بنسبة 20% للتصدي لمثل هذه المخاطر المحتملة. أيضا، أنشأت وزارة الدفاع، عام 2010، وحدة خاصة تابعة لها لمتابعة خطر الهجمات الإلكترونية والتصدي لها. وحسب نائب وزير الدفاع الحالي، وليام لين، أصبح الفضاء الإلكتروني "مهماً جدا للعمليات العسكرية، كما البر والبحر والجو والفضاء".

غير أن هذا الإدراك، وعلى الرغم من حجم الاستثمارات الحكومية الكبيرة فيه، ووضع إدارة أوباما قواعد "للاشتباك الإلكتروني"، إلا أن خبراء يرون أنها تبقى دون المستوى المطلوب، وهذا ما يجعل الولايات المتحدة عرضة للاختراق الإلكتروني دوماً، خصوصاً في ظل عجز إدارة أوباما إلى اليوم عن توحيد قيادة جهود التصدي لمثل هذه الهجمات، حيث تتنازع ذلك وكالات أميركية عدة. ويعزو خبراء ذلك إلى حقيقة أن عالم الإنترنت يتطور أسرع من عالم أمنه.
ويحذر الخبراء أنفسهم من أن الهجمات الإلكترونية، سواء شنتها دول أم منظمات تصفها واشنطن بالإرهابية، قد تكون أعظم خطراً وأكثر كارثية، من الهجمات التقليدية الأخرى، وقد تشمل، بالإضافة إلى كل ما سبق، التسبب بضرب الاقتصاد الأميركي، وحتى باصطدام طائرات مدنية بمبانٍ، وهو ما قد ينجم عنه مئات، إن لم يكن آلاف الضحايا.
نماذج لفعالية الهجمات الإلكترونية
يسوق الخبراء في مجال الهجمات الإلكترونية نماذج كثيرة لمدى الأضرار التي قد تترتب عليها. وحسب هؤلاء، فإن أكبر وأنجح الهجومات الإلكترونية وأكثرها فاعلية، قد يكون الهجوم الذي يعتقد أن كلا من الولايات المتحدة وإسرائيل شنتاه على مفاعل ناتانز النووي الإيراني لتخصيب اليورانيوم عام 2010. فقد تسبب فيروس Stux Net Worm، حينها، في ضرب الحواسيب الإيرانية وأنظمة التحكم في المفاعل، ويعتقد أن ذاك الفيروس أعاد البرنامج النووي الإيراني سنواتٍ إلى الوراء.
أما أنجح عملية شنت ضد الولايات المتحدة، قبل الهجوم الأخير على شركة سوني، فقد تكون عملية ربيع العام الماضي، عندما تمكنت مجموعة تطلق على نفسها "الجيش الإلكتروني السوري" من اختراق حساب وكالة أسوشييتد برس على "تويتر"، وأعلنت خبراً، من خلاله، عن تفجير وقع في البيت الأبيض، لتهوي بذلك معاملات عملاق البورصة الأميركية "داو جونز"، فترة وجيزة، أكثر من 140 نقطة. وفي العام نفسه، طلبت بنوك أميركية من الكونغرس مساعدتها في التصدي لهجمات إلكترونية، يعتقد أن مصدرها كان إيران.
"حرب المستقبل"
صحيح أن الحديث عن تداعيات كارثية لأي هجوم إلكتروني، في سياق عسكري أو إرهابي، لا يزال نظرياً، ذلك أنه لم تقع مثل تلك الهجمات بعد، والتي تستهدف البنى التحتية للولايات المتحدة، بما في ذلك أجهزة التحكم بالمياه والطاقة والمواصلات والاتصالات. والموقف الرسمي الأميركي واضح بأن وقوع أي هجمات من هذا المستوى سيعتبر بمثابة إعلان حرب. غير أن ذلك، أيضاً، لا يعني أنه لا توجد دول تملك إمكانية توجيه مثل تلك الهجمات ضد الولايات المتحدة.
ويعزو خبراء سبب عدم وقوع هجمات على هذا المستوى إلى اليوم، على الرغم من أنه يعتقد أن الصين وروسيا، تحديداً، تملكان التكنولوجيا اللازمة لفعل ذلك، إلى أمرين: الأول، أن ذلك قد يقود إلى حرب عالمية ثالثة. والثاني، أن الصين وروسيا وغيرهما من الدول تدرك أن الولايات المتحدة أكثر دول العالم تقدماً في المجال الإلكتروني. وبالتالي، فإنها الأقدر على إيقاع ضربات كارثية بخصومها، إن تجرأوا وهاجموها إلكترونيا. وبهذا يصبح عامل الردع المتبادل مانعاً لأي حماقة قد يفكر طرف ما بارتكابها في هذا السياق، غير أن ثمة من يحذر من أن عامل الردع قد لا يكون كافيا في حال ما تصاعد التوتر الأميركي-الصيني، أو الأميركي-الروسي، ووصل إلى حد الصراع المفتوح.

أيضا، مفهوم الردع المتبادل قد ينطبق على الدول في علاقاتها البينية، أو ما يطلق عليه "الحرب الإلكترونية"، ولكنه لن ينطبق على الجماعات التي تصنفها واشنطن على أنها إرهابية. وحسب التقديرات الاستخباراتية الأميركية فإن مثل تلك التنظيمات تعكف على تطوير قدراتها الإلكترونية، خصوصا وأن عددا كبيرا من المقاتلين في صفوفها يأتون من أوروبا والولايات المتحدة، بما يعنيه ذلك من إمكانية وجود خبراء في هذا المجال في صفوفهم. ويصف الخبراء الخطر القادم من مثل تلك التنظيمات بـ"الإرهاب الإلكتروني".
على أي حال، فإنه يبدو أن الهجمات الإلكترونية في طريقها لكي تكون سلاح القرن الجديد، ويكفي أن نشير، هنا، إلى أن الكونغرس الأميركي شكل لجنة استشارية خاصة لفحص إمكانية، وطرق التصدي، لأي محاولات "عبث" صينية تؤدي إلى "تعطيل كارثي" للبنية التحتية الأميركية. وحسب شركات استشارات أمنية ودفاعية أميركية، أفرزت الصين وحدات خاصة للحرب الإلكترونية، ضمن قواتها المسلحة، تشارك في المناورات العسكرية التدريبية. بل إن مسؤولين أميركيين وجهوا، الشهر الجاري، الاتهام مباشرة للصين بأنها سرقت، إلكترونيا، تصاميم الطائرة الأميركية المقاتلة F-35، من شركة "لوكيد مارتن" الأميركية، لتصنيع طائرتها المقاتلة J-31. بمعنى أن ما فعلته كوريا الشمالية، إن ثبت الزعم الأميركي، لا يعدو أن يكون أكثر من قرصة أذن لتذكير أميركا والعالم بحقيقة المخاطر التي نواجهها جميعا اليوم.