"لم تكن أوروبا حلماً للعيش، خاصة أني منذ نهاية تسعينيات القرن المنصرم وأنا أتجول مع أهم الفرق الفنية مقدماً عروضاً فنية على أهم المسارح مشاركاً في تظاهرات ثقافية عالمية"، يقول الفنان وأستاذ الرقص التعبيري في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، سابقاً، الفنان التشكيلي ومؤسس فرقة آمار للمسرح الراقص محمد عودة، من مغتربه الأوروبي الآن.
وعلى الرغم من أن هؤلاء الفنانين كانوا عادة يسافرون متجولين بين عواصم حول العالم، حاملين حقائب الألبسة الشعبية والتصميمات الخاصة بمسرحهم ليعرضوا فنوناً عالمية، إلا أن رحلتهم الأخيرة من سورية لم تكن كما في المرات السابقة. كتغريبة جديدة خرج أعضاء فرقة "آمار" من السوريين والفلسطينيين مجبرين. بلا تأشيرة ولا جوازات سفر هذه المرة وبحقائب خف وزنها بحثاً عن الأمان لعائلاتهم.
يقول محمد عودة في حديثه لـ"العربي الجديد": كانت دمشق دوما الوطن والبيئة التي نستمد منها الفن والحافز للتقدم والإبداع. لكن ظروف الحياة التي تعرضت لها سورية فرضت علي التفكير بالخروج لمكان تستطيع فيه عائلتي العيش بأمان . لم تكن الـ12 ساعة في البحر مخيفة وصعبة بالمقارنة بأسوأ 20 يوماً قضيتها مع المهربين في ليبيا، بعد وصولي لها عابراً من الجزائر إلى تونس فالسواحل الليبية وبعدها رحلة التنقل من إيطاليا فألمانيا وصولاً إلى هولندا، حيث بدأت حياة جديدة".
الفنان الذي يجد نفسه مهاجراً يخوض غمار التهريب عبر الحدود وركوب مخاطر البحر، وعلى الرغم ممّا تتركه التجربة من صدمات إلا أنه لا يستطيع، أينما وصل، إلا أن يعود للأصل في تركيبته. يضيف عودة: "حاولت استغلال وجودي في الفترة الأولى مباشرة بعد التعرف على المجتمع الهولندي، ودراسة اللغة التي يجب أن يحرص عليها أي مهاجر ينشد النجاح، حتى أني بدأت بتدريب بعض الأطفال في معسكرات اللجوء، حيث تعاونت مع إدارة المعسكر (الكامب ) للتحضير ليوم مفتوح للأطفال. دربتهم على بعض الرقصات البسيطة. كما عملت أيضاً على إقامة يوم ثقافي شاركت فيه فنانات هولنديات. دربتهن أيضاً على عرض مسرحي راقص يتناول مواضيع إنسانية ووجدانية نال إعجاب الحضور فكانت فرصة للتعرف على السيدة دانس برايبنت المتخصصة بالشؤون الثقافية للاجئين. اقترحت علي أن يتم تعاون مشترك في تقديم عرض فني مسرحي راقص في افتتاح الأسبوع الثقافي في مدينة تلبرغ وهو المهرجان الهام المخصص لعروض المهاجرين وثقافاتهم تحت اسم ( ik maak het mee لنعمل سوياً) ". وهو مهرجان برعاية المجلس المحلي وجمعيات ثقافية ويشمل على عروض موسيقية ومسرحية ومعارض ومحاضرات أدبية.
بعد وصول عائلة الفنان عودة واستقراره في ضواحي نوتردام بدأ التحضير لهذا العرض بالتعاون مع راقصين محترفين من طلاب مدرسة الرقص العليا في تلبرغ ومشاركة طلابه علاء بكر ووسام يوسف الأعضاء السابقين في فرقتي في سورية.
يشير عودة إلى أن البروفات أعادته والمجموعة بالذاكرة والمشاعر "إلى أعمالنا الكثيرة التي قدمناها على خشبات المسارح في سورية وخارجها، مثل عرض روح الفينيق، والقرن الأسود، وواسطة العقد، وحوار".
لكن ضمن الإمكانيات المتاحة والوقت الضيق بخبرته استطاع تصميم أربع لوحات راقصة الأولى على ألحان أنور إبراهيم وتحت عنوان "الضوء يأتي من النافذة".
وهي تتحدث عن معاناة المعتقلين، وأخرى بعنوان "صرخة"، وبمرافقة موسيقى الثلاثي جبران، ويدور موضوعها عن الظلم والقهر. بينما عرضت المجموعة عملين يرتبطان بالفن الشعبي الفلكلوري في سورية.
بغض النظر عن المشاركات التي يراها بعضهم متواضعة في المهجر إلا أنها الخطوة الأولى، "فهذه التجربة هي الأولى من نوعها على مستوى المهاجرين السوريين مع بعضنا بعضاً، وأتمنى أن يكون هناك مثلاً فرق للمسرح الراقص تماثل فرقة السيمفونية السورية للمغتربين تجمع الراقصين المحترفين الأكاديمين تقدم عروضاً بالمستوى الذي يليق بالمسرح في سورية وأن تعكس هموم وأفكار المغتربين وأوطانهم".
"قابل الحضور العرض بسرور كبير وغطت العديد من الصحف والقنوات التلفزيونية الحدث، حيث لاحظت انبهارهم بالمستوى الفني والفكري للتصاميم، حيث تعرفوا عبر هذه اللوحات على مدرسة المسرح الراقص في سورية والتي اعتز كوني أحد العاملين بها والتي لا تقل أبدا بالمستوى عن أهم المدارس العالمية، وهذا ما دعا أيضاً، بعضهم للتنسيق معي لإقامة ورشات في 2017 ووضع خطط لمشاريع فنية مستقبلية في مدينة جيسلاوس"، يضيف الفنان عودة عن هذه التجربة في هولندا.
القدوم إلى هولندا يشعر عودة وفرقته بأنه لا يستدعي الندم " فعلى المستوى الشخصي اعتقد أن هولندا دولة هامة في الفنون عامة، وفي مجال المسرح الراقص خصوصاً، وأظن أنها ستكون بيئة جيدة لتطوير مهاراتي وأفكاري، حيث أتابع فيها مسيرتي الفنية التي بدأتها منذ أكثر من 20 عاماً قضيتها في العمل والصبر للوصول الى ما أريد وما يدفعني لذلك أيضاً، تعاون الهولنديين وانفتاحهم الثقافي على العالم وحبهم للاندماج بين الشعوب".
يتأمل محمد الصورة المحفوظة في كومبيوتره الشخصي، الذي وصل مع أمتعة عائلته إلى هولندا لاحقاً، ويتذكر سنين العمل المضني ليكون أحد أهم المصممين السينوغراف والكريوغراف في سورية الفن الذي يعرفه بالتماهي بين الفكر والروح والجسد.
أما البعد عن الوطن والأهل، فهذا موضوع لم يعد له نفس التداعيات بعد ثورة التواصل الاجتماعي الرقمي "حيث يمكنك التحدث ومقابلة الأهل في أي لحظة مما اختصر المسافات بيننا، وأجد أن مستقبل بناتي الثلاث سيكون أكثر أماناً في المرحلة القادمة وخاصة بعد تقبلهم للغة وانخراطهم في المدارس بفترة زمنية قصيرة".
يرى المستقبل بأمل في المهجر فيقول: "أتمنى أن أتمكن من إيصال رسالتي الفنية التي تعتمد على لغة الجسد للعالم الغربي، وأن يرتقي الفن المسرحي الراقص في بلادنا بحيث يفتح أمام الطاقات الشابة الكبيرة المجال للتعبير دون أن يكون هناك حاجة لاجتياز أمواج المتوسط بحثاً عن مستقبل أفضل".