في عام 2016، ومن أمام أبواب السجون، انطلق نشاط رابطة أمهات المختطفين في اليمن. فرحنَ يطالبنَ بإطلاق سراح أبنائهنّ وأزواجهنّ وإخوتهنّ المخفيين قسراً والمعتقلين، وما زال نشاطهنّ مستمراً.
في مناطق النزاعات حول العالم، تكثر حالات الإخفاء القسري والاعتقال بين الشباب. اليمن من تلك المناطق المأزومة، وتأتي معاناة أمهات المعتقلين والمخفيين قسراً لتزيد من آلام البلاد. والمعنيّون هم عادة الحوثيون أو التشكيلات الأمنية في المحافظات الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية. يفيد التحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن، بأنّه جرى إخفاء 615 شخصاً خلال عام 2017 فقط، في حين جرى اعتقال واختطاف 4392 آخرين. ووثّق التحالف كذلك عمليات تعذيب وحشية بحق 206 محتجزين.
لا يمرّ أسبوع واحد إلا وتنفّذ أمهات المخفيين قسراً والمعتقلين فعالية أو نشاطاً أو تصدر بياناً، في محافظة أو منطقة. وفي حين تُكشَف بعض تلك التحركات أمام الإعلام، فإنّ أخرى تجري في أماكن مغلقة حتى لا تتعرّض النساء لقمع أو أذى من قبل عناصر مسلحة. فثمّة ممارسات قمعية ضد أهالي المخفيين قسراً والمعتقلين بهدف كسر إرادتهم واستهداف نشاطهم المطالب بالكشف عن مصير أبنائهم أو لابتزازهم مالياً.
"أطلقوا سراح أبنائنا" (العربي الجديد) |
تجارب وغصّات
قبل عام، في مارس/ آذار من عام 2017، اختفى ابن أم علي. تقول لـ"العربي الجديد" بحرقة وألم واضحَين: "اختطف الحوثيون ابني من دون أيّ سبب يُذكر. ولمدة سبعة أشهر، رحت أبحث عنه. وبعدما عثرت على مكان اعتقاله، بدأ مشوار المطالبة بالسماح لنا بزيارته". تضيف أم علي أنّ معاناتها مستمرّة، بسبب حرمانها من رؤية ابنها، مشيرة إلى أنّ "السجانين لا يردّون على طلبي زيارة ولدي. وإذا ردوا، فإنّهم يسوّفون ويماطلون. ونتعرّض للإهانات المتكررة، لكنّنا نسكت خوفاً على أبنائنا المعتقلين عندهم". وأم علي التي تمكّنت بخلاف كثيرات، من رؤية ابنها في خمس زيارات خاطفة، تخبر أنّها تترك له "مبالغ من المال قد تساعده داخل السجن أو ملابس شتوية، لكنّ القائمين على السجن يسرقونها". وتشكو من أنّ "المنظمات الدولية وللأسف، لا تساعدنا في الحصول على أبسط حقوقنا كأسر للمخفيين قسراً ولا تهتمّ بأبنائنا".
من جهتها، بدأت أمة السلام رحلة عذابها في سبتمبر/ أيلول من عام 2016، "عندما كسر مسلحون بلباس مدني باب المنزل واقتحموه واقتادوا ابني أمام عينَيّ". وتخبر "العربي الجديد" أنّهم "كانوا يسمحون لنا خلال الزيارات النادرة، بحمل بعض الطعام شريطة أن يكون بلا عظام وداخل أكياس بلاستيكية. أما اليوم فنحن غير قادرين على رؤيته". وتشير إلى أنّه "مصاب بالبهاق، وظروف السجن زادت انتشار البقع في كلّ أنحاء جسمه نظراً إلى عدم تعرّضه للشمس. كذلك هو يعاني من مشكلات في الأعصاب والمعدة". ولا تتوقف معاناة أمة السلام عند عدم إطلاق سراح ابنها أو عدم قدرتها على رؤيته، وتقول: "تعرّضت لمضايقات في عملي وأعفيت من وظيفتي وألصقت بي تهم لا أساس لها من الصحة".
مريم، أم أحمد، اختفى ابنها في سبتمبر/ أيلول من عام 2017، وهي منذ ذلك الحين تواجه مشكلات مختلفة، تمنعها من رؤيته بعدما عرفت مكان اعتقاله. تقول لـ "العربي الجديد": "أنتظر لقائي بابني مثلما ينتظر طفل يوم العيد، لكنّني أعود غالباً مكسورة الفؤاد، على الرغم من الوعود المتكررة بلقائه". وتخبر أنّه "في عيد الأضحى الماضي، اتصلت بمشرف السجن واتفقت معه على أن أحضر الطعام لولدي وأزوره صباح يوم العيد. فأعددت الطعام الذي يحبّه وبعض الملابس وتوجّهت إلى السجن صباحاً. تركوني أمام بوابة السجن حتى المغرب من دون أن أتمكّن من رؤيته أو إعطائه الطعام". وتشير إلى أنّها تتعرّض "للإهانة بصورة مستمرة من قبل الحوثيين الذين يحرسون السجن، والذين يتهمون ابني بأنّه داعشيّ وعميل واتهامات أخرى لا يمكن إثباتها".
يُذكر أنّ الأمهات يتعرّضنَ للابتزاز، نظراً إلى لهفتهنّ على أبنائهنّ ورغبتهنّ في الكشف عن مصيرهم وإطلاق سراحهم من المعتقلات. فيُصار إلى إجبارهنّ على دفع أموال طائلة مع وعود بالإفراج عنهم، لكنّ الأمر ينتهي غالباً كعمليات نصب تتعرّض لها الأمهات وبقية أفراد أسرة المخفي قسراً أو المعتقل.
في مناطق الشرعية
الأمهات اليمنيات في المناطق الخاضعة للحكومة الشرعية جنوباً، يحصلنَ كذلك على نصيبهنّ من المعاناة. ففي عدن ولحج وأبين، كثيرات لا يعرفنَ مصير أبنائهنّ، فأجهزة الأمن تنفي اختطافهم وإخفاءهم، على الرغم من أنّها تنفّذ عمليات مداهمة واعتقال من دون أيّ مسوغات قانونية. ويمثل تعدد الأجهزة الأمنية في عدن مشكلة كبيرة، إذ تُشتت جهود الأمهات في البحث عن الحقيقة من وراء اختفاء أولادهنّ قسراً وأماكن وجودهم. جبرة حسين من هؤلاء الأمهات، وهي تعيش وضعاً إنسانياً صعباً منذ خَطف ابنها هاني في العام الماضي. بعدما عثرت على مكان اعتقاله، تمكّنت من رؤيته. تخبر "العربي الجديد" والدموع تملأ عينَيها: "عندما زرت ولدي شاهدت آثار تعذيب على جسده وحروقاً متفرقة في يديه وبطنه ورأسه وظهره. قال لي إنّها من جرّاء الكهرباء، وصار يبكي ويردّد أنّه مظلوم وحالته النفسية سيئة". تضيف أنّه "منذ زيارتي الأخيرة له، جرى إخفاؤه ولا أعلم عنه شيئاً".
"أين منظمات المجتمع المدني؟" (العربي الجديد) |
رابطة أمهات المختطفين
أمام هذا الواقع الأليم، ولأنّه يُمنَع على الرجال متابعة أحوال أقربائهم وأهلهم، اضطرت الأمهات إلى تشكيل رابطة لمتابعة أبنائهنّ. وبدأ نشاط الرابطة في منتصف أبريل/ نيسان من عام 2016، عند أبواب السجون، بعدما جرى تعارف وتواصل بين أمهات المخفيين قسراً والمعتقلين وزوجاتهم وأخواتهم المختطفين، المطالبات بإطلاق سراح هؤلاء من سجون الحوثيين. وإزاء ما تعرّضت له الأمهات من اعتداءات لفظية وجسدية وابتزاز مالي ونفسي أمام بوابات السجون، كانت فكرة تأليف رابطة تجعل منهنّ قوة جديدة تسعى بشجاعة إلى المطالبة بالأبناء المغيّبين في سجون الجماعات المسلحة والتشكيلات العسكرية. وتعمل "رابطة أمهات المختطفين" على الكشف عن مصير المخفيين قسراً وإطلاق سراح المعتقلين وضمان سلامتهم ومتابعة أوضاعهم في السجون، بالإضافة إلى التخفيف من معاناة الأمهات والأهل عموماً من خلال التوعية والدعم النفسي وتقديم المساعدات.
أم محمد عضو في فريق التنسيق في "رابطة أمهات المختطفين"، تقول لـ"العربي الجديد" إنّ "التعريف بمعاناة المختطفين والإسهام في إيصالها إلى العالم عبر وسائل الإعلام، واحد من أهداف الرابطة إلى جانب رصد الانتهاكات في حق المختطفين وذويهم وتوثيقها". وتشير أم محمد إلى أنّ "الرابطة نفّذت أكثر من 103 وقفات احتجاجية وأجرت لقاءات عدّة مع معنيين، لعلّ أبرزها مع مبعوث الأمم المتحدة السابق في اليمن، إسماعيل ولد الشيخ أحمد". تضيف أنّ "الرابطة أتت في ظلّ غياب المنظمات الحقوقية التي كان من المفترض أن تضطلع بالدور الذي نؤدّيه اليوم". وإذ تقول: "نحن نطالب بأبنائنا"، تؤكد أنّهنّ على استعداد لتحمّل أيّ مشقة أو صعوبة من أجل ضمان سلامة المخفيين قسراً والمعتقلين وإطلاق سراحهم.
وعن رسالة الأمهات إلى العالم، تقول أم محمد: "ننادي بقلوب الأمهات التي تنزف ألماً كلّ يوم، أن يساندونا حقوقياً وقانونياً وسياسياً واجتماعياً بالضغط لإطلاق سراح أبنائنا وأقاربنا المعتقلين وفي الكشف عن مصير أبنائنا المخفيين قسراً منذ أكثر من عامَين ونصف العام". وتشير إلى أنّ "مئات من أبنائنا قتلوا رمياً بالرصاص داخل السجون بعد تعذيبهم، في حين أنّ آخرين كُسرت عظامهم واقتلعت أظافرهم وأحرقت أجسادهم بالكهرباء وضربوا حتى الموت. نحن نرى بعضاً من أبنائنا جثثاً هامدة فيما التعذيب واضح على أجسادهم، ولم نعد قادرات على تحمّل هذا الوجع والخوف وحيدات".
يُذكر أنّه خلال الفعاليات التي تنفّذها الأمهات، تقع اعتداءات مختلفة عليهنّ، الأمر الذي دفعهنّ إلى تحرّكات في أماكن مغلقة. ورحنَ يلتقطنَ صوراً لهنّ وينشرنها في وسائل إعلامية. تقول أم محمد إنّ "الحوثيين راحوا يحاصرونا ويلاحقونا ويقمعون مسيراتنا في الشوارع، وقد وصل الأمر إلى حدّ محاولة اختطاف أمهات واحتجاز بعضهنّ في أقسام الشرطة. كذلك، راحوا يضغطون على معتقلين في السجون للإفصاح عن اللواتي ينفّذنَ وقفات الاحتجاجية وحرمانهنّ من زيارة أبنائهنّ كوسيلة ضغط".
رصاص على الأمهات
وفي العودة إلى الجنوب، صبيحة الأربعاء 12 يوليو/ تموز من عام 2017، أطلقت النار على وقفة احتجاجية نفّذتها أمهات أمام بوابة أحد المعسكرات التي يعتقدنَ بأنّ أبنائهنّ محتجزون في داخله، في عدن، العاصمة السياسية المؤقتة. وتقول هيفاء وهي شقيقة أحد المعتقلين شاركت في تلك الوقفة لـ"العربي الجديد"، إنّهنّ فوجئنَ بأنّ "أكثر من طاقم عسكري كان في انتظارنا عند اقترابنا من البوابة. فطلبنا من سائق الباص الذي يقلّ الأمهات التوقّف حتى لا يُلقى القبض عليه كونه رجلاً، وواصلنا الطريق سيراً إلى البوابة".
وتخبر هيفاء أنّ "العناصر الأمنية باشرت الاعتداء على الأمهات في أثناء الوقفة بطريقة عنيفة، وصلت إلى حدّ تمزيق براقعهنّ، كذلك كُشفت رؤوسهنّ من جرّاء الضرب والاعتداء. وأصيبت أمّهات بكدمات على الوجوه والعيون بالإضافة إلى كسور في الأيدي". تضيف أنّ "ثمّة أمهات جرى اقتيادهنّ للتحقيق معهنّ في إدارة البحث الجنائي، حيث بقينَ أربع ساعات محتجزات قبل إخلاء سبيلهنّ". بالتالي، تتعدد الأضرار والانتهاكات التي تتعرّض لها الأسر، ما بين اعتداءات مباشرة ومخاوف أمنية وأضرار مالية ونفسية وصحية واجتماعية.