وتؤوي المنافي سيدات هربن بأطفالهن إلى المجهول أملا بالأمان خارج حدود الوطن، تروي أم خالد لـ"العربي الجديد"، حكاية الأبناء الذين تركتهم في مدينتها داريا المدمرة، تقول "خرجت مع ابني أحمد في تهجير قسري إلى ريف إدلب، واليوم في عيد الأم أتذكر التفاف أولادي حولي، وهدايا عيد الأم، وتحول البيت إلى صالة فرح، قبل أن يخطفهم الرصاص واحدا تلو الآخر. في الأعياد الماضية كنت أذهب إلى المقبرة لأحادثهم، اليوم ليس لدي سوى الذكريات وحلم الرجوع".
أكثر من 300 ألف سوري لجأوا إلى مدينة عينتاب التركية المحاذية للحدود السورية، والتي لا تبعد عن حلب أو إدلب كثيرا. اختار أغلبهم المدينة لأنها توفر لهم سهولة العودة المأمولة، تقول أم فيصل التي تسكن مع عائلتها في الحي القديم "جمهوريات": "أجرة البيت معقولة، وأنا أعيش على ما يرسله ابني الذي هاجر بحراً إلى السويد، وما يصلني من مساعدات غذائية من الجمعيات الخيرية. تظل المشكلة في الحصول على الدواء، لكن الله يدبرها".
وتضيف "أنا من حلب الشرقية، وخرجنا بعد أن مات زوجي نتيجة القصف الروسي، وابني الأكبر انضم إلى المقاتلين على جبهات ريف إدلب، أما ابني الثاني فاختار الهجرة، وينتظر إقامته الدائمة ليرسل لي لأعيش بصحبته".
رغبة أم فيصل كما تقول هي أن تعود إلى بيتها الذي عاشت فيه 40 سنة، وهي لا تريد الهجرة ولا تحب البلاد الباردة التي يحدثها عنها ابنها المهاجر، لكنها لا تملك إلا الأحلام والدعاء.
من حي الوعر في ريف حمص الشمالي نزحت السبعينية أم عبد الله إلى ريف إدلب، ومن ثم دخلت بواسطة مهرب إلى تركيا، حيث تعيش في سكن للطلبة، وقصتها لا تختلف عن قصص أغلب الأمهات السوريات إلا في كونها وحيدة ومريضة. سألناها كيف تتدبر أمورها؟ أجابت "ولاد الحلال كتار".
ولا تختلف منافي الداخل السوري عن الشتات، فشوارع العاصمة تعج بالأمهات الباحثات عن عمل لتربية أطفال حرموا من بيوتهم وآبائهم، وهنّ عرضة للتحرش والاستغلال.
في الشارع المجاور لجامعة دمشق، مرت سنوات الموت السوري سريعة على أم وأطفالها مزروعين على الرصيف. يلقي المارة ما تيسّر من مال، وآخرون يشترون منها ما تبيعه من بسكويت وعلب مناديل، هي لا تريد أن يقال إنها متسولة، وأما الصغار وبينهم فتاتان، فقد تفتّح وعيهم على الرصيف. هي لا تتحدث مع أحد، ولا تشتكي لأحد، ولا رواية لها سوى البقاء على الرصيف.
سيدة أخرى تعيش في خيمة صغيرة صنعتها من أكياس وبعض الملابس في الشارع الممتد إلى مشفى المجتهد. المكان لا يتسع سوى لها، والسكان لا يعرفون عنها سوى أنها تعيش منذ سنوات في الخيمة التي لا تحميها من شمس أو مطر، لكنهم يرسلون لها بعض الطعام وبعض المال ليساعدوها على البقاء. فجأة اكتشفوا أن الخيمة فارغة وأنها اختفت كما ظهرت.
لا يعلم أحد مصير مئات الأمهات اللواتي خرجن من الغوطة الشرقية. رواية النظام أنهن في أماكن آمنة مؤقتة، ورواية المعارضة أنهن محتجزات. أما الأمهات اللاتي خرجن من حصار السنوات الخمس الأخيرة فمصيرهن مجهول من منفى إلى آخر.