أمل دنقل.. شاعر زمننا العربي

21 مايو 2014
الجنوبي (1940-1983)
+ الخط -

شخصيّة أمل دنقل الثقافيّة والشعريّة تجلٍّ لجيل الحلم القوميّ، ذلك الجيل الذي ما كادت أحلامه في النهوض والتحرّر تأخذ مداها حتى تلقت ضربة حزيران 1967 . لكنْ الهزيمة نفسها ستشكّل ولادة أخرى لهذه الشخصيّة حين تربطها بأسئلة الشعب المقهور. فضمير المتكلّم الذي يسيطر على معظم قصائد الشاعر يعود إلى فرد مملوء بثقل الهزيمة، ينوء بإحساس دائم بالقمع الذي يتدفق مع شراسة الشرطة، ونشرات الإذاعة الكاذبة، وتحوّل رغيف الخبز إلى مشقّة كبرى.. هكذا تتجوّل الهزيمة في كل مكان كالهواء؛ في الشارع، في الباص، في الموعد الغراميّ، في جلسة المقهى.

هذا التماهي بين القضية الوطنية والقضية الشخصيّة عند الشاعر لا يأتي اعتباطاً، بمقدار ما يعكس تماهيهما الواقعيّ، وهنا تصبح الكتابة الشعرية مطالبة بحق الإنسان بوجوده الطبيعي وبحثه عن الخلاص.

بين بحث القصيدة عن حقّها، تحت دعوات حلم النهوض القوميّ الذي بشرّت به ثورة 1952، وبين اصطدامها بجدران الهزيمة الصّماء، في الدّاخل والخارج على حدّ سواء؛ راح منظور دنقل يتبلور في سمته العروبية التحرّرية. فشقّ الشّعر طريقه من الحسّ الشعبي المقدود من حيوات البسطاء، متشابكاً مع رؤيا المثقف المتوقّدة الذي لا تنقصه جرأة أو شجاعة في نقد السلطات السياسية التي قصّرت عن تحقيق الأحلام، لا بل جعلت من الشعب البسيط جبهة لنشاط أجهزتها الأمنية بدلاً من جبهة الأعداء.

مع شقّ الطريق الوعرة بدأ المنظور القوميّ يأخذ مداه في استنهاض التراث العربي، والحفر في رموزه التاريخية (كليب، صقر قريش، المتنبي، أبو موسى الأشعري، الحسين...)، لتصبح هذه الرموز مرايا يعكس الشاعر عليها هزائم اللّحظة المُعاشة، بما يُبرز التّناقض بين أمجاد الماضي وهوان الحاضر، أو بما يسمح للفكرة الثورية أن تشعّ من زوايا تطابقت فيها انكسارات الحاضر والماضي. وهذا ما سيرفع القصيدة الدنقلية عالياً إلى مستوى الثقافة الوطنية الثائرة، لا توفّر في نقدها الماضي والحاضر، في سبيل بلوغ المستقبل المحلوم.

كانت عروبة دنقل أقرب إلى التلقائية والعفوية، كما "الغلابى" كلّهم؛ إنها انتماء للهواء والماء العربيَيْن، للسماء والأرض والشمس العربية. عروبة ثقافية لا حزبية، عروبة الهوية الطامحة إلى تقديم إضافتها الحضارية والإنسانية، لا عروبة الشّعار الذي ولّد خللاً مريعاً في النظرة إلى الذات العربية. عروبة ولدت ولادة طبيعية وارتبطت بقضية فلسطين، حتى أنّ روائعه الشعرية انبثقت من المواجهة العربية مع المشروع الصهيوني.

لم تكن مسألة الهوية العربية أمراً هيناً لدى دنقل، فقد شهدت بداياته نزوعاً مصرياً، فكتب الكثير من القصائد التي يتكئ فيها على رموز مستلّة من التاريخ الفرعوني، لكنه، وفي حادثة معروفة، وجد أنّ كثيراً من المثقفيين المصريين لم يفهموا أياً من مقاصده، فراح يعيد تشكيل الماضي العربي شعرياً، بعدما أدرك أن الانتماء الثقافي إلى التاريخ العربي أكثر منه إلى التاريخ الفرعوني.

صرخة ولادته الشعرية هي قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، العلامة الفارقة في معاناة الهوية لديه، فحيث فجّرت هذه القصيدة صدى مُدوياً لتعبيرها الدامغ عن هزيمة حزيران، فجّرت، في الآن ذاته، صدى منقطع النّظير في التجاوب مع الرمز العربي الأصيل، وعثور الشاعر على هويته التي لا لُبس فيها.

توازت مع رحلة الهوية الفكرية للقصيدة رحلة، لا تقلّ ضنى ومشقّة، هي رحلة البحث عن الهوية الشعرية الجديرة بحكاية إنسانها، وشعرنتها في قصيدة حديثة جديرة بحمل مشاغل شاعرها الثّورية جمالياً وفنياً، فمن دون ذلك لن تعدو كونها بلاغات وبيانات في أحسن الأحوال.

تحوّلت القصيدة على يد "الجنوبي" إلى مصهر تمتزج فيه السينما والتشكيل والمسرح والفوتوغرافيا، محمولةً على شبقها السردي، وراحت تتكوّن على شكل درامات شعرية قصيرة. ويمكن أن نرى دراما إنسان النكسة في "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، ودراما البحث عن الثأر في "أقوال جديدة عن حرب البسوس"، ودراما المرض والألم عبر صراع الحياة والموت في "الغرفة رقم 8".

العمر القصير الذي عاشه دنقل لم يسمح له أن ينجز إلا ست مجموعات فقط: "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، "تعليق على ما حدث"، "مقتل القمر"، "العهد الآتي"، "أقوال جديدة عن حرب البسوس"، و"أوراق الغرفة 8".

لا شك أن أعمالاً كثيرة كانت في جعبة الشاعر وحال رحيله المبكر دون إنجازها، فهو غادر في ذروة عطائه وبعد أن تجاوزت قصيدته الخطاب السياسي المباشر. ولعل ما يقوله المستعرب الإسباني بيدرو مارتينث مونتابيث يختصر الكثير: "أعتقد أن أمل دنقل كان في طريقه ليصل إلى مستوى أعلى بكثير مما حققه كشاعر، لكن، مع الأسف، موته سبق وصوله، وأنا على يقين بأنه لو عاش لأبدع ما لا يمكننا تخيله".

رغم أن دنقل رحل مبكّراً إلا أن ما كتبه كأنما هو عن زمننا هذا، عن هذه اللحظة العربية الشاقة، التي انتقل فيها الصراع مع الاستبداد إلى مستويات ثورية، تماماً كما كانت تحلم قصائده.

المساهمون