أمحمد بوستة.. الحكمة والكاريزما

09 مارس 2017

بوستة في اجتماع ضد احتلال سبتة ومليلة (17/9/1997/فرانس برس)

+ الخط -
بعد شيوع خبر وفاة الزعيم التاريخي المغربي، أمحمد بوستة، قبل أيام، عن 92 عاما، تواترت الأسئلة عن آخر العمالقة في حزب الاستقلال. اجتهدت المخيلات والأقلام في حكايات وتفاصيل عن أحد الوجوه الأساسية للحركة الوطنية المغربية، وأيا كانت مشاعر المدح والإطراء والإشادة بمناقب الرجل، فإن المؤكد أن زعيماً من العيار الثقيل غاب عن الساحة السياسية المغربية، وعن الوطن الذي فقد فيه ابنا بارا رابط في الخندق الأمامي، بكل صلابة، دفاعا عن كبرياء المغرب وكرامته، وسعى، بكل الوسائل، إلى زرع قيم وعلاقات راقية، كانت دليلا على دماثة خلقه وتواضعه وبساطته وعمق إنسانيته.
كان لديه من الصفات والمؤهلات ما تجعله يحتل الواجهة، فعندما شيعته الجماهير وحشود المعزين إلى مثواه الأخير في مراكش، مسقط رأسه، بكت وأطلقت الشعارات والزغاريد لتقاوم الحزن. توحدت المواقف والألوان الإيديولوجية في جنازته، لا يمين ولا يسار، لا سلطة ولا معارضة، لأنه كان كبيرا، والكبار لا يتكرّرون، ولا يحل محلهم أحد. وهنا الخسارة.. المطلقة، لأن أنصار حزب الاستقلال ومنتسبيه وأعمدة الدولة المغربية سيفتقدونه في اللحظات الحرجة، حيث الحاجة ماسّة إلى الحكمة والإنصات والرأي السديد، وهو الذي كان فارسا في هذا الميدان، وكان النموذج والمثال، فهو طالما أبدى اعتزازا بانتسابه إلى مدرسة الأخلاق والفضيلة ونكران الذات، وبقي وفيا للمبادئ والثوابت والقيم الكبرى التي آمن بها، علما أن هاجسه كان الدفاع عن المشروعية ومناهضة الإقصاء، واعتبار الخلاف مع الخصوم فكرياً له علاقة بمنهجية التدبير السياسي، وطبيعة الاختيارات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
كان أمحمد بوستة، وهو الذي تولى الأمانة العامة لحزب الاستقلال عام 1974، بعد الرحيل المفاجئ للزعيم التاريخي علال الفاسي، يملك طاقة نادرة وكاريزما استثنائية في التعاطي مع
الأحداث وتدبير الأزمات، سواء كانت ذات طبيعة حزبية تنظيمية أو ذات بعد وطني، لذلك لقب بالحكيم ورجل الظل، فهو على الرغم من انسحابه من معترك السياسة العملية، وعدم تحمله أية مسؤولية في الحزب، منذ سنة 1998، حرص على متابعة (ومراقبة) الأحداث السياسية والأوضاع في شتى مناحيها، واستخلاص العبر والنتائج، وحصر الاختلالات وتحديد الأسباب، مستندا في ذلك إلى تجربة غنية بكل المقاييس، وإلى سلطة أخلاقية، جعلت منه ملاذا ومرجعا تلجأ إليه قيادة الحزب الذي قاده، للحفاظ على وحدة التنظيم وتماسكه، عندما تنشب الأزمات التي لا يمكن احتواؤها إلا بالحكمة والنصح والتصالح، فالرجل كان دائما موضوع إجماع، وكان هدفه الأسمى هو التجميع. ولذلك، اختير خلفا للزعيم علال الفاسي، لأنه كان مؤهلا لهذه المهمة، لتوفره على مواصفات القيادة. ولم يتردد الملك الراحل الحسن الثاني في تزكيته أمينا عاما، عند استقباله زعماء الأحزاب الذين قصدوه لتقديم التعزية له، وفق الأصول والتقاليد في المغرب، حيث قال لهم "رحم الله علال الفاسي والبركة في السيد بوستة"، مع أنه كانت لبوستة مواقف جريئة، عندما رفض المشاركة في حكومة ترأسها الجنرال محمد أوفقير، في أعقاب حالة الاستثناء التي أعلنها الحسن الثاني، على خلفية ما يسمى بانتفاضة 23 مارس/آذار (1965)، والتي سقط فيها ضحايا، خصوصا في مدينة الدار البيضاء، وسوّغ بوستة موقفه بأن الهواجس الأمنية غلبت على تلك الحكومة.
في بداية تسعينيات القرن الماضي، عاش حزب الاستقلال، في عهد بوستة، نقلة تنظيمية وإشعاعا فكريا وسياسيا، بعد إقدام الحزب على التوقيع على ميثاق الكتلة الديمقراطية التي كانت تتشكل من الاستقلال والاتحاد الاشتراكي ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية والتقدم والاشتراكية، وكلها أحزاب خرجت من رحم الحركة الوطنية، وتباينت أيديولوجيا لأسبابٍ مرتبطة باختلاف المشاريع السياسية والاجتماعية التي كانت تدافع عنها، والأولويات التي كانت تتحرّك وفقها. وكان هذا الميثاق بمثابة إعلان مبادئ وبيان سياسي متعدد الرسائل، خصوصا تلك الموجهة إلى الحكم، خصوصا وأنه جاء في ظرفية دقيقة ومحتقنة على المستويات كافة، حيث اعتبرت الأحزاب الخمسة، وكلها كانت في معسكر المعارضة، أنه، وعيا منها أن البلاد أمام منعطف تاريخي فاصل، لا يمكن اجتيازه إلا بالمعالجة الجدية والجذرية للقضايا الكبرى التي تراكمت اختلالاتها، وزادت حدّتها، والتي تتجلى خصوصا في حتمية اقتحام عهد جديد تتحقق فيه التغيرات الجوهرية والديمقراطية الحقيقية، في إطار الملكية الدستورية الديمقراطية والاجتماعية· مع اقتناعها بأن منطلق تجاوز الوضعية، يكمن في إقرار الديمقراطية إطاراً عاما، باعتباره الغاية والوسيلة، من أجل تصحيح وإعادة هيكلة المؤسسات والبنيات السائدة، وخصوصا منها ما يتعلق بتوازن السلطات، وتحديد مسؤولياتها.
مجرد انخراط حزب الاستقلال في تحالفٍ كهذا، إلى جانب أحزابٍ عرفت بمقارعتها الحكم،
وحدة صراعها معه، كان كافيا لاستفزاز دوائر صناعة القرار، لأنها اعتادت أن ترى في حزبٍ محافظ إحدى الركائز المحورية للمؤسسة الملكية، ولم يكن من السهل استساغة توقيع أمحمد بوستة، رفقة عبد الرحمن اليوسفي وعبد الله إبراهيم ومحمد بنسعيد آيت يدر وعلي يعتة، وكلهم قامات سياسية وازنة، على ميثاقٍ كان له ما بعده.
وهكذا لعب بوستة دورا أساسيا في فتح قنواتٍ للحوار بين المؤسسة الملكية ومكونات المعارضة، في محاولة لإقناع الملك الراحل الحسن الثاني بإشراك هذه المكونات في الحكم، تمهيدا لتناوب توافقي كفيل بتحقيق انتقال ديمقراطي على الأرض.
ومن منطلق أن حزب الاستقلال كان يجسد ضمانة سياسية، بحكم طبيعة أيديولوجيته واختياراته المحافظة، فقد اختار الملك الحسن الثاني أمحمد بوستة ليقود أول تجربة حكوميةٍ للتناوب، غير أن بوستة رفض قيادة أي حكومةٍ، يشارك فيها وزير الداخلية الراحل إدريس البصري الذي كان يوصف بأنه الوزير المطلق وفوق الوزراء. في موقف غير مسبوق، وصدر بشأنه بلاغ (بيان) من الديوان الملكي، اعتبر فيه الملك الراحل أن النزول عند هذا المطلب يمسّ بحسن سير المؤسسات المقدسة.
كان موقف بوستة، وقرار الملك الحسن الثاني العدول عن تشكيل حكومة من المعارضة بدون إدريس البصري، عاملا جوهريا في تأجيل تجربة التناوب السياسي التوافقي إلى 1998، أي بعيد الانتخابات التشريعية التي جرت أواخر 1997، ومنحت حزب الاتحاد الاشتراكي المكانة الأولى، والتي على أثرها تم تعيين عبد الرحمن اليوسفي وزيرا أول، وغاب عنها أمحمد بوستة، علما أن حزب الاستقلال كان من أركانها الأساسية.
عُرف بوستة أيضا بنزعته التوافقية، فبعد فترة من الراحة والاختلاء بالذات، تم اللجوء إلى خبرته وحنكته وشساعة أفق تفكيره، فعينه الحسن الثاني رئيسا للجنة الملكية التي تولت إعداد مدونة الأسرة، بعدما وصلت لجنة سابقة إلى الباب المسدود، وتمكّن من تدبير هذا الملف الحساس، وإيجاد أرضية توافقية بين مختلف الأطياف والتيارات داخل اللجنة، ليربح المغرب مدونة اعتبرت بأنها قفزة نوعية في المجالين، الحقوقي والتشريعي. وبقي بوستة ملتزما بهذا النهج، بما في ذلك التعاطي مع العواصف التنظيمية التي تضرب، من حين إلى آخر، الحزب الذي قاده، لاقتناعه بأن التوافقات والمصالحات تسهم في التقدم والوحدة والتطور والاستقرار.