يطلب العقيد حمزة فاهم، أحد ضباط "قوات التدخل السريع" في الجيش العراقي، من جنوده انتظار انقشاع الدخان والغبار المتصاعد من زقاق ضيّق على أطراف حي المنصور قبل إطلاق النار من بنادقهم الرشاشة بكثافة بعد قصف جوي لطائرة أميركية استهدف أحد منازل هذا الزقاق ضمن المظلة الجوية التي تقدمها واشنطن للجيش العراقي. فنهار الثلاثاء الماضي، خرجت عائلة من وسط الدخان في حي الدواسة المجاور مؤلفة من أم وثلاثة أطفال وزوجها. وكردة فعل، توقع عناصر الجيش أن هؤلاء هم عناصر من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وأطلقوا النار عليهم وأردوهم قتلى.
ويبرر فاهم ارتفاع عدد القتلى المدنيين في حديث لـ"العربي الجديد"، قائلاً إن أفراد العائلات المختبئين داخل المنازل، بعضهم، وبسبب شدة الخوف والهلع من أن يسقط السقف على رأسه، يخرج مسرعاً إلى الشارع بشكل هستيري، في وقت يكون فيه الجيش في حالة رصد لأي جسم متحرك، ويكون الجنود بحالة تشنج كبيرة في المعركة"، الأمر الذي يؤدي إلى إطلاق النار. ويضيف أن تنظيم "داعش" هو السبب، إذ يتحصن عناصره بين العائلات للاحتماء بهم"، وفق تعبيره.
ويعلن المتحدث باسم الفرقة التاسعة بالجيش العراقي، المقدم رياض جابر، لـ"العربي الجديد" أن نصف الساحل الأيمن بات تحت سيطرة القوات العراقية بشكل كامل". ويضيف أن "المعارك مستمرة وهناك حالة من عدم الاستقرار في خطوط العدو نتيجة الضربات الجوية التي أفقدته القدرة على إعادة ترتيب صفوفه"، وفق قوله. لكن تصريح هذا المتحدث العسكري لا يعكس الواقع على الأرض بشكل دقيق، لأن معاينة التطورات الميدانية تظهر أن أصوات المعارك والاشتباكات لا تزال تسمع بين ساعة وأخرى في الأحياء التي أعلن عن تحريرها، مثل أحياء باب الطوب والدواسة التي سويت أغلب منازلها بالأرض، وحي الدندان والمجمع الحكومي. وتشير مصادر عسكرية عراقية إلى أن استمرار هذه المعارك والاشتباكات ناجمة عن وجود جيوب لـ"داعش"، حيث يرفض مقاتلوه هناك الاستسلام ولديهم أسلحة ثقيلة ومتوسطة، ما يمكنهم من مواصلة التصدي للهجمات حتى الآن. لكن المصادر تؤكد أنها مسألة وقت لا أكثر، وفق تعبيرها.
ويمكن مشاهدة مروحيات "الأباتشي" الأميركية وهي تحلق على ارتفاعات متفاوتة وتقدم الدعم الناري للقوات العراقية، ولا سيما داخل المناطق الضيقة التي يصعب فيها تدخل المقاتلات الحربية. وقد أسفرت معارك يوم أمس الأربعاء، في عدد من مناطق غربي الموصل، عن تمكن القوات العراقية من السيطرة على حي المنصور وحي الشهداء والصابونية، كما تم اقتحام أحياء المعلمين والصابونية والعمال، حيث تجري معارك شرسة بين الجانبين.
ويقول قائد الحملة العسكرية على المدينة، الفريق الركن عبدالأمير رشيد يارالله، في بيان صحافي، إنه "تم عزل الساحل الأيمن للموصل عن تلعفر"، ما يعني بالنهاية عزلها عن الأراضي السورية بشكل كامل. وقد أقامت القوات الأمنية جداراً من الكتل الكونكريتية بين المناطق المحررة حديثاً والمناطق التي بدأت بمهاجمتها، فيما يبدو أنها خطة لعزل الأحياء وتقسيم الساحل الأيمن لسهولة السيطرة عليه.
في غضون ذلك، يقول العقيد محمد فاضل من قوات الشرطة الاتحادية لـ"العربي الجديد"، إن "القوات العراقية تتوقع معارك شرسة في الأحياء الباقية حيث بات تنظيم داعش محاصراً بالكامل". ويضيف أن المعركة الأصعب والتي يمكن وصفها بالعقبة الأخيرة، تتمثل بأحياء الموصل القديمة وحاوي الكنيس والتنك والنهروان والصناعة الجنوبية، وهي من أكبر الأحياء صعوبة ومساحة وقد تنتظر القوات المهاجمة معارك عنيفة وصعبة"، بحسب تعبيره.
بموازاة ذلك، تمكنت "قوات التدخل السريع" من الوصول إلى الجسر الثاني الذي يقع عند نهاية حي الدندان. لكنها لم تستطع حتى الآن من تأمين الجسر بشكل كامل، بسبب وجود عمليات قنص واسعة تحول دون إمكانية تأمين السيطرة على الجسر الذي يعتبر أحد خمسة جسور استراتيجية في الموصل والتي تربط جزأها الشرقي بالغربي".
وتشارك مليشيات "الحشد الشعبي" في معارك شمال غرب الموصل إلى جانب قوات الجيش العراقي، بحسب بيان لمكتب الإعلام الحربي التابع لـ"الحشد". وجاء في البيان أن "قوات الحشد الشعبي وقوات الفرقة التاسعة المدرعة قد باشرت باقتحام ناحية بادوش شمال غرب الموصل وانتهت من إحكام السيطرة على سجن بادوش جنوب الناحية".
وترجح مصادر استخباراتية عراقية وجود أقل من ألف مقاتل يتبعون لتنظيم "داعش" في الأحياء التي يسيطر عليها. ووفقاً للمصادر ذاتها التي تحدثت مع "العربي الجديد"، فإن غالبية المقاتلين الموجودين هم من جنسيات عربية وممن يطلق عليهم "الانغماسيون" الذين ينفذون عمليات انتحارية. وتلفت المصادر إلى أن عدد الجثث التي عثر عليها لا تتجاوز 300 جثة لعناصر داعش، وهو عدد قليل إذا تمت مقارنته مع عدده الكلي في الساحل الأيمن، والبالغ نحو 4 آلاف مقاتل، وهو ما يعني فرار الكثير منهم خارج المدينة"، بحسب المصادر الاستخبارية.
وفي سياق الوضع الإنساني، تقول مصادر محلية داخل الموصل إن "نحو 40 مدنياً قتلوا خلال معارك الأربعاء فيما أصيب عشرات من الجرحى ساهمت بعض تشكيلات قوات الأمن في عملية إخلائهم". ووفقاً للمصادر ذاتها فإن تنظيم "داعش" خسر آخر مستشفى خاضع لسيطرته في الموصل ويقع في حي المنصور المحرر، مما يعني أن وضعه صار أكثر صعوبة في معركة لا يتوقع أن تطول أكثر مما انقضى منها حتى الآن.