الصمت المدوي
يواصل صلاح عبد السلام تطبيق استراتيجيته التي بدأ بتنفيذها غداة اعتقاله. إذ كرر مرة أخرى في أول جلسة أنه لا يريد الإجابة عن الأسئلة، كما أنه لن يقدم أي تفسيرات حول ما حدث خلال عملية إطلاق النار على الشرطة في 15 مارس / آذار 2016. فبعد عشرين شهراً من الحبس، ورغم تغير مظهر الشاب الذي تم القبض عليه في حي مولينبيك في بروكسل، فإنه لم يتردد في الرد على رئيسة المحكمة، ماري فرانس كيوتجن، التي طلبت منه الوقوف في بداية الجلسة للإدلاء بهويته، "لا، أنا متعب. أنا لم أنم. لقد تم تسليمي".
ولأنها ربما تأكدت أن لا جدوى من مواصلة الاستجواب، سعت إلى إقناعه بعدم أداء دور الكومبارس في محاكمته الخاصة. ليرد صلاح "لقد طلب مني الحضور وأنا هنا ببساطة. هناك محاكمة وأنا الممثل لهذه المحاكمة. سأظل صامتاً ولا يجعلني صمتي مذنباً أو مجرماً. إنها طريقتي في الدفاع عن نفسي. هناك أدلة في هذا الملف وأريد أن يحكم عليّ بناء عليها. أن يتم ذلك على براهين ملموسة وليس لإرضاء الناس ووسائل الإعلام".
صلاح عبد السلام الذي شدد على التزامه بالصمت تكلم دقائق طويلة ليعبر عن توجيهه اتهامات للعدالة، قائلاً "ما أراه هو أن المسلمين يحاكمون ويعاملون بأسوأ الطرق. لا يتم احترام افتراض البراءة". وأضاف بعد النطق بالشهادة "أضع ثقتي في الله. أنا لا أخاف منكم أو من حلفائكم. أضع ثقتي في الله"، لتبدأ مرحلة الصمت الفعلي.
يقول أستاذ الفلسفة في جامعة بروكسل، غي هارشر، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "التزام المتهم للصمت كارثة. لأنه إذا لم يكن هناك كلام، لا يحدث أي شيء. فمن الناحية المثالية، يتحدث المتهم إلى الضحايا ويجدد الصلة. ولكن لا أعتقد أن ذلك سيحصل في هذه المحاكمة. إذا تمت إدانة الإرهابي، فهذا يعني أن العدالة قد أدت دورها. ولكن الضحايا عادة ما يتوقعون أكثر من ذلك: كلاما، بداية الاعتراف، شيئا ما يمكن أن يساهم في تخليصهم من وحدتهم. وفي حالة الهجمات، وبسبب انتحار معظم المنفذين واستراتيجية صمت الآخرين، لا شيء يمكن أن يحدث في هذا الصدد. لذا لا يمكن توقع الكثير من هذه المحاكمة".
عزلة قاتلة
يجمع كل الذين التقوا صلاح عبد السلام في الأيام التالية لإلقاء القبض عليه، من ضباط الشرطة والقضاة والأطباء، على إبداء نفس الملاحظة: يشبه أي منحرف عادي، فهو لا يملك أي كاريزما. وحتى المحامي الذي قرر الدفاع عنه، سفين ماري، لم يتردد في وصفه بـ "منفضة سجائر فارغة". ورغم أن لا أحد من المقربين منه يبدو مستعداً، حالياً، لوصف حالته الذهنية بعد عشرين شهراً من الاحتجاز في مؤسسة سجنية فرنسية، فهناك إشارات إلى أن صحته النفسية قد تدهورت مع مرور الوقت، خصوصاً أن نظام السجن المطبق عليه، العزلة والمراقبة المستمرة، قاس جدا.
وكان عبد السلام لدى وصوله إلى الجناح الإرهابي، في الطابق الرابع في أكبر سجن في أوروبا، قد استقبل بالصفير والتصفيق من قبل السجناء الآخرين قبل أن يدخل في صمت وعزلة قاتلة. فهو يقيم في زنزانة من حوالي عشرة أمتار مربعة، كل شيء فيها صمم لتفادي أي محاولة للانتحار. كما أن اثنين من الحرس يراقبانه باستمرار عبر ست كاميرات مثبتة في الزنزانة. إنه "يشعر بالانزعاج بشكل خاص من كاميرات المراقبة في زنزانته. وقال إنه لا يمكن أن يتحمل مراقبة 24 ساعة في اليوم، وأعتقد أن ذلك يخلق له من الناحية النفسية مشاكل"، كما قال في إبريل/ نيسان 2016، فرانك بيرتون، المحامي الفرنسي الذي كان في ذلك الوقت، يمثل عبد السلام جنباً إلى جنب مع سفين ماري.
لغز مستمر
في انتظار تقرير العدالة لمصيره، يقضي صلاح عبد السلام معظم أوقاته في مشاهدة التلفزيون، خصوصاً برامج الواقع. وبحسب شهادات نقلتها الصحافة الفرنسية فإنه يقرأ القرآن مرات عدة في اليوم، ويصلي كثيراً على السجادة التي سمح له بإبقائها في زنزانته. وعلى مدى الأشهر التي قضاها في المعتقل، يقول حراسه بأنه أصبح أكثر عصبية وأصابته الوسوسة. وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، كتبت صحيفة لوباريسيان، أنه منذ وصوله إلى سجن فليوري - ميروجيس، أبرز صلاح عبد السلام سلوكاً أكثر تغيراً، يمرّ من الصمت التام إلى الغضب الأسود.
وفي الآونة الأخيرة، تم تخفيف ظروف احتجازه قليلاً حتى يتمكن من التعافي ويكتسب الاستقرار النفسي لمواجهة أولى المحاكمات. ولا يزال محروماً منذ اليوم الأول من اعتقاله من أي اتصال مع السجناء الآخرين. ويتلقى صلاح عبد السلام مئات الرسائل كل شهر. ومع ذلك، فإنه لا يجيب عليها إلا نادرا جداً. رغم أن استعمال الرسائل كانت عادة تبناها صلاح بالفعل عندما كانت الشرطة تبحث عنه في مخابئه ببروكسل. فقد عثرت الشرطة على رسائل موجهة إلى أسرته. إذ كتب إلى والدته "اعلمي أن ابنيك قاتلا من أجل الله". واعترف لأخته بتورطه في هجمات باريس، قائلا "فقط روعت الكافرين لأن فرنسا هي البلد الذي يحارب الإسلام وذلك منذ فترة طويلة". وفي رسالة إلى ابن عمه في يونيو/ حزيران 2017، شدد صلاح عبد السلام على أنه ينتظر فقط الحكم الإلهي، واختتم رسالته بأمر زجري "الصلاة. الصلاة. الصلاة". ولم يعرف عن عبد السلام صرامة في الالتزام بالعبادات في بداية حياته السجنية.
... في انتظار الحكم
محاولة الاغتيال التي يتم متابعة صلاح عبد السلام وسفيان العياري بموجبها تتم أمام محكمة الجنح. وقد طلب الادعاء العام إنزال عقوبة بالسجن لـ20 عاماً بحق عبد السلام وشريكه عياري تتضمن 13 سنة من السجن الفعلي. وهذه العقوبة القصوى التي تنص عليها محكمة الجنح لإطلاق النار على شرطيين، بحسب ما أوضحت ممثلة النيابة الفدرالية كاثلين غروجان. محامية الشرطيين الجريحين، ماريز أليه، شددت من جهتها على الطابع الإرهابي للعملية، مفسرة بأنه "من خلال مهاجمة شرطة تؤدي واجبها، في منطقة سكنية مع مدارس قريبة، ليس هناك أي شك في طابع العملية".
وينتظر أن يدلي اثنان من محامي الادعاء بمرافعاتهما صباح غد الخميس قبل أن يأتي دور مرافعات محامي عبد السلام وشريكه سفيان عياري. وكانت جلسة الاستماع الثانية أمس الثلاثاء قد أُلغيت لإفساح المجال أمام سفين ماري، محامي عبد السلام، لتحضير مرافعته.
ورغم أن المحاكمة كان من المقرر أن تمتد على أربعة أيام، من الاثنين حتى الجمعة مع توقف الأربعاء من كل أسبوع، وذلك حتى 15 مارس/ آذار، فيمكن أن تقتصر على عدد أقل من الأيام. كما يمكن أن يتم تسريع الاجراءات جزئياً لتقليص مدة المحاكة والاعلان عن الحكم وذلك بسبب امتناع عبد السلام عن الإجابة عن الأسئلة.
وفي انتظار النطق بالحكم، يقول أستاذ علم الجريمة في جامعة لييج، ميكاييل دونتين، في حديث مع "العربي الجديد" إنه "كما بدا في اليوم الأول للمحاكمة، مع ما قاله وما لم يفصح عنه، تمكن صلاح عبد السلام ربما من إثارة الأسئلة عنه عند بعض الناس. فقد انتقل من دور الشخص غير المحظوظ إلى شخص يريد الذهاب إلى أبعد حد في المواجهة. قد يتساءل المرء: هل لديه خيار؟ وقد يكون حضوره المحاكمة يسعى لإعطاء هذه الصورة".