ألسنة مهدّدة بالانطفاء: العربية وجاراتها في جنوب الجزيرة

07 مايو 2019
(نقوش بالقرب من مدينة صلالة العمانية)
+ الخط -

يتميّز جنوب الجزيرة العربيّة بتنوّع لغويّ لافت، إذ تتجاور في فضائه الفسيح منذ أزمنة بعيدة ألسنة كثيرة تتحدّر من سلالات لغويّة مختلفة، بعضها كان على صلة قديمة باللغة العربية، والبعض الآخر كان مستقلّاً عنها، منتمياً إلى عائلات لغويّة أخرى. لكن هذه اللغات ظلّت، مع ذلك، كيانات لسانية قائمة بذاتها، لها خصائصها المتفرّدة بحيث لا يمكن بأيّة حال التهوين من شأن أصالتها وتميزها. يتجلّى هذا التنوّع اللغوي بشكل واضح في ما تمسحه خارطة عُمان اليوم حيث تتعدّد اللغات وتتنوّع مؤسسة بذلك "مهرجاناً لسانيّاً".

تعدّد اللغات هذا وتنوّعها يرتدّان، في الواقع، إلى سببين اثنين؛ أمّا الأوّل فهو موصول بتاريخ عُمان القديم حيث كانت على امتداد تاريخها، مستقرّ القادمين من الكثير من الحضارات وملتقى العديد من الثقافات، عاشت مجتمعة في كنفها وساهمت في إنجاز تراثها الحضاريّ.

وأما السبب الثاني فهو موصول بتاريخ عمان حيث امتدّ سلطان هذه الدولة إلى المناطق المجاورة فشمل شرق أفريقيا وأقاليم في فارس والسند. حمل هذا التاريخ إلى عُمان تنوّعاً في اللغات كبيراً. بعض هذه اللغات كان أصيلاً منبثقاً من أرض عمان وثقافتها وبعضها الآخر كان وافداً، منحدراً من المناطق التي تحيط بها.

وإنّه لأمر ذو دلالة أن يهمل المؤرّخون العُمانيّون القدامى الإشارة إلى هذا التنوّع اللغويّ، منذ أقدم العصور، ولعلّ ذلك كان مرتبطاً، كما قال الباحث محمد سالم المعشني، بما للغة العربيّة من منزلة عظيمة في نفوس العمانيّين الذين يعدّونها اللغة الوحيدة الجديرة بالدّرس والاهتمام وما عداها فهو خروج عن القواعد وانحراف عن الأصول ولحن في القول.

هذا الإهمال نفسه نلحظه في العصور الحديثة فعدد قليل من الباحثين العمانيّين انعطفوا على هذه الظاهرة بالنظر والتأمّل، فقد وقرّ في الأذهان أنّ اللغة العربيّة لغة مقدّسة بل ذهب بعضهم إلى أنّ كلّ اهتمام باللغات الأخرى يعدّ "مؤامرة تستهدف إضعاف الفصحى" على حدّ تعبير المعشني.

لكن على قدر تجنّب الباحثين العمانيّين تناول ظاهرة التعدّد اللغوي في بلادهم بالدرس نلاحظ إقبال المستشرقين عليها وسعيهم إلى استقرائها. فكثيرة هي الدراسات الاستشراقية التي اعتنت بهذه الظاهرة والبحث عن أسبابها ورصد تجلياتها.

ونحن إذا تأملنا هذه اللغات التي تعجّ بها عُمان وجدنا جزءاً كبيراً منها يتحدّر من أصول ساميّة ممعنة في القدم وجزءاً ثانياً يعود إلى أصول هندو-إيرانيّة، وجزءا ثالثا يأتي من مصدر أفريقي.

من لغات عمان ذات الأصول الساميّة نذكر: اللغة الشحريّة وهي اللغة المنتشرة في منطقة ظفار، وهذه اللغة هي في نظر الكثير من الباحثين ذات جذور حميرية، وربّما تعدّ السلف السابق للغة العربية الحديثة وأصلاً من أصولها الأولى.

ومن اللغات الساميّة الأخرى المنتشرة في جنوب عمان نذكر اللغة المهرية وهي اللغة التي تتكلّمها قبيلة المهرة في كلّ من عمان واليمن، ولغة الهبيوت التي يتكلمها عدد قليل من سكان ظفار واللغة البطرحية واللغة الحرسوسية.

ومن اللغات الوافدة ذات الأصول الهندو-الإيرانية نذكر اللغة البلوشية التي انتشرت في عُمان بعدما هاجرت أسر بلوشية من غرب باكستان وشرق إيران إلى السلطنة، واللغة الزدجالية المتحدّرة من أصول سنديّة، واللغة الكمزارية وهي لغة قرية كمزار الواقعة على مضيق هرمز، واللغة اللواتيّة التي يتكلمها بعض الآلاف في مسقط. ومن اللغات الأفريقية نذكر السواحليّة التي انتشرت في بعض أقاليم السلطنة بعد عودة عدد من العمانيين الذين سكنوا زنجبار إلى أرض الوطن.

بعض هذه اللغات بات اليوم مهدّداً بالانطفاء بعد أن أصبح المتكلمون بها لا يتجاوزون، في بعض الحالات، بضع مئات من الأفراد، فهذه لغة الهبيوت مثلاً لا يتكلمها إلاّ مئة وخمسون شخصاً، بل يقدرهم البعض بأقلّ من مئة شخص. وهذه اللغة البطحرية لا يتكلمها إلا مئتا عمانيّ، أمّا اللغة الحرسوسية فلا يتكلمها إلاّ ست مئة شخص. حتّى اللغة الشحرية التي يستخدمها مئة وخمسون ألف شخص أصبحت هي أيضاً مهدّدة بالزوال في نظر الباحث علي الشحري بعد أن هجرها عدد كبير من أصحابها. يقول هذا الباحث: "قبل أربعين عاماً كانت الشحرية لغة جميع سكان ظفار بما في ذلك السكّان العرب الذين كانوا يتكلمون بها ويحذقون استخدامها. أمّا اليوم فإنّ الحديث بهذه اللغة آخذ في التراجع على نحو واضح"، ويضيف "إذا بقيت الأمور على حالها فإنّ اللغة الشحريّة سوف تموت".

أمّا الأسباب المؤدية الى هذا الانطفاء فهي كثيرة منها إقبال الأجيال الجديدة على تعلّم اللغة العربية التي هي اللغة الرسمية ولغة التعليم والإدارة، وانتماء هذه اللغات إلى خصائص الكيانات اللغوية "الشفويّة" بحيث لم يتم تدوينها فظلّت لغات تواصل يومي وخطاب عفوي في أكثر الأحيان.

صحيح أن الشحرية وَضعت في عصور غابرة نظاماً كتابياً دقيقاً تفطن إليه الباحثون محفوراً في بعض الأقبية والكهوف لكن هذا النظام تخلى عنه الناطقون بها منذ أقدم العصور بحيث لم يتمكن الباحثون منذ اكتشافه من تفكيكه وفهم رموزه.

إضافة إلى كل ذلك يجدر الانتباه إلى أن أصحاب هذه اللغات قد انصهروا في الغالب ضمن بيئات لغويّة جديدة تنتشر حولهم مثلما حدث للكمزاريين الذين تركوا قراهم الواقعة في "واد بين جبلين تسقيه أعين عذبة جارية" حسب تعبير ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" ليلتحقوا بولاية خصب المركز الرئيسي لمحافظة مسندم وينخرطوا في مؤسسات الدولة التعليمية والإدارية ويتخلّوا عن لغتهم الأمّ و يتكلّموا العربيّة.

تنتمي هذه اللغات، على تعددها، إلى الثقافة العمانيّة رغم انحدارها من مصادر مختلفة وأمّا تنوّعها فهو كما قال المعشني يوازي التنوّعات الجغرافيّة والاجتماعيّة والمناطق والقرى والمدن العمانيّة. كلّ هذه اللغات تحمل إرثاً ثقافيّاً وفنّياً وأدبيّاً كبيراً ساهم، على امتداد التاريخ، في رفد الثقافة العمانية بطاقات حضارية ورمزية كبيرة. وإنّنا لا نعدو الصواب إذا قلنا إنّ تعدّد هذه اللغات هو وجه من وجوه التميّز الثقافي الذي تتفرّد به منطقة جنوب الجزيرة العربية عن بقيّة البلاد العربيّة.


* أكاديمي وشاعر من تونس

المساهمون