أكذوبة الديكتاتور المستنير

13 ديسمبر 2018
+ الخط -
عرّف عالم السياسة الأميركي، دايفيد إيستون (1917-2014)، السياسة بأنها عملية "تخصيص سلطوي للقيم"، وأن هذه العملية هي الهدف الرئيسي للسياسة. وفي نظرية التحليل السياسي التي وضعها، هناك عدة فرضيات يمكن من خلالها إجراء عملية التحليل للسياسة بنسقٍ يشبه ما يحدث في العلوم الطبيعية، فهناك نظام سياسي وبيئة سياسية ومدخلات وتفاعلات ومخرجات. 
ويعرّف إيستون النظام السياسي بأنه التفاعلات التي تحدث في المجتمع، والتي يتم من خلالها توزيع الموارد أو القيم بشكل سلطوي، أي عن طريق السلطة، فوظيفة النظام هي التوزيع السلطوي للقيم في المجتمع، عن طريق عملية صنع القرارات الملزمة، ويكون التخصيص سلطويا عندما ينصاع الأفراد للقرارات، أيا كان الدافع من الانصياع، سواء كان الخوف أو
المصلحة واحترام الشرعية. فالسياسة بشكل عام هي عملية "التخصيص السلطوي للقيم"، وهي القيم التي تضعها أو تقوم عليها السلطة، وهي ملزمة طالما وجدت تلك السلطة. وانطلاقاً من هذا التعريف، تصبح العملية السياسية مرتبطة عضوياً بالسياسات الحكومية، أي بالقرارات التي تتخذها السلطة السياسية، في إطار خططها وأنشطتها لإدارة شؤون الدولة أو المجتمع.
 وتشمل أيضا مجمل الأنشطة التي تتجلى من خلالها السلطة، بوصفها رد فعل، أو استجابة للضغوط الواقعة عليها من الفئات والجماعات المختلفة والمتصارعة، وهي دائرة متكاملة ذات طابع ديناميكي، تبدأ "بالمدخلات" وتنتهي "بالمخرجات"، ثم تغذية استرجاعية. والمدخلات مثل المطالب والحاجات من المجتمع والرأي العام. أما المخرجات، فهي رد فعل المؤسسات الحاكمة، والذي قد يكون إيجابيا أو سلبيا، وهي أيضا مجموعة القرارات والأفعال التي يقوم بها النظام وتكون إلزامية. وقد تأخذ الاستجابة شكل تقديم حوافز ومكافآت، كما قد يترتّب عليها فرض كوابح وعقوبات، وذلك بهدف استمالة جماعةٍ ما، أو تحييد أخرى، أو عقاب ثالثة.
ينظر بعضهم إلى السلطة في المجتمع مثل دور الأب في المنزل، فالأب يحتاج سلطة لكي يستطيع أن يقوم بدوره في التعليم، وكذلك المدرس في المدرسة. ولم تنجح فكرة ما أو حركة فكرية أو اجتماعية أو سياسية أو دينية في تطبيق أفكارها إلا من خلال سلطة سياسية تمتلكها أو تساندها، فلم تنتشر المسيحية إلا بدعم قسطنطين، ولم ينتشر الإسلام إلا بعد إقامة الدولة والفتوحات، ولم تنتشر اللوثرية إلا بدعم الدولة البروسية، ولم تنتشر الشيوعية إلا بعد الدعم الألماني ثم استيلاء البلاشفة على السلطة. والفكرة مهما كانت جميلة، تظل مجرد فكرة، ما لم تكن مدعومة من سلطة، وهذا هو سبب صراعات وحروب كثيرة، فهناك دولة تفرض القيم عن طريق السلطة، وهناك حزب أو جماعة تسعى إلى السلطة، من أجل تطبيق البرنامج والأفكار، فالسياسة في الأساس عملية تخصيص سلطوي للقيم.
انتشرت أخيراً في مصر عدة تدوينات وتغريدات وتنظيرات من موالين للنظام، يتم وصفهم برموز التنوير وقادته في مصر، تتحدث عن فكرة "الديكتاتور المستنير". وتخلط بينها وبين مصطلح أو فكرة "التخصيص السلطوي للقيم"، فالديكتاتور المستنير هو الذي يستخدم سلطاته، من أجل التنوير ونشر الأفكار الحديثة وأفكار التنوير في المجتمع المتخلف، مثل أتاتورك وجوزيف تيتو والحبيب بورقيبة وجمال عبدالناصر! فمن وجهة نظر التنويريين ودعاة الديكتاتورية المستنيرة في مصر، لا بد من حاكم قوي يسعى إلى تطبيق قيم المدنية والعلمانية بالقوة، حتى يقتلع الجهل والتخلف من المجتمع، وحتى يستطيع أن يواجه الأفكار المتطرّفة والإرهاب، فبعد سنواتٍ من الديكتاتورية المستنيرة، يبدأ المجتمع في تقبّل أفكار التحضّر والرقي وقبول الآخر. أما الديمقراطية وحقوق الإنسان فهي، من وجهة نظرهم، تؤدي إلى الفوضى، وتساعد على انتشار الفكر المتطرف والإرهاب. ولذلك، من الأفضل تأجيل الحريات السياسية إلى أن يكون المجتمع متقبِّلا ذلك، بعد سنواتٍ من التمهيد عن طريق الديكتاتورية المستنيرة، وزرع قيم التنوير بالقوة.

الحرية التي تطمح لها فئة التنويريين تلك لا تتعدى حرياتهم الشخصية وأسلوب حياتهم لا أكثر، حريتهم "هم" في الملبس وأسلوب الحياة المتحرّر. أما الحريات في الرأي والعقيدة والتعبير أو الحقوق السياسية، فهي من الأمور المهمشة والمؤجلة، على الرغم من فشل نظرية الحقوق المؤجلة، وأبرزها تجربة جمال عبد الناصر، فتأجيل الحقوق والحريات، بزعم بناء الدولة، ونشر القيم أولا، لم يؤدّي إلا إلى بناء دولة الفرد، وليس دولة المؤسسات، كما أن تلك القيم التي تم نشرها بالإجبار ستنهار برحيل الفرد الحاكم. وبالنسبة إلى النموذج المصري، فاقد الشيء لا يعطيه. وفي النموذج المصري الحالي: هل يمكن تصنيف عبد الفتاح السيسي ديكتاتورا مستنيرا؟ فالنظام الحاكم في مصر حاليا لا يصنّف نظاما علمانيا أو تقدميا، بل ذو مزاج محافظ لا يختلف عن مزاج الجماعات الأصولية، ولا تختلف ممارساته كثيرا عن ممارسات جماعة الإخوان المسلمين في جزئية استخدام الدين في الدعاية السياسية.
في عهد الديكتاتور المستنير المزعوم، هناك خطبة موحدة للجمعة تمجّد في الحاكم وسياساته، وتحرض على المعارضة والمعارضين. ولا يخلو الخطاب السياسي من استخدام للمشاعر الدينية، بل أعتقد أن جماعة الإخوان ما كانت لتجرؤ على تحريك كل تلك الدعاوى القضائية المتعلقة بالحسبة، وما يطلق عليها حماية الأخلاق وقيم المجتمع، ولا أعتقد أن برلمان "الإخوان" كان لينتفض لفستان رانيا يوسف، كما يحدث الآن.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017