قضى محمد علي باشا حاكم مصر خلال الفترة من عام 1805 وحتى عام 1848، على العديد من مظاهر التفرقة والتمييز التي كانت سائدة بين أقباط مصر ومسلميها؛ إذ عمد إلى تطبيق المساواة التامة بين المسلمين والأقباط في الحقوق والواجبات؛ عبر تعيين أقباط مأمورين (وظيفة توازي منصب المحافظ) لمراكز برديس والفشن بالوجه القبلي وديرمواس وبهجورة والشرقية، كما ألغى محمد علي قيد الزي الذي كان مفروضاً على المصريين الأقباط سابقاً، وألغى أيضاً كل القيود التي كانت تفرض على ممارستهم طقوسهم الدينية؛ ولم يرفض أي طلب تقدموا به لبناء أو إصلاح الكنائس، كما أنه يعد أول حاكم مسلم يمنح الموظفين المصريين الأقباط رتبة البكوية، بحسب ما جاء في كتاب الأقباط في السياسة المصرية، لكاتبه الدكتور مصطفى الفقي.
بعد وفاة محمد علي باشا، تولى حكم مصر أبناؤه وأحفاده، الذين استمروا على نهجه، أولهم سعيد باشا (1854-1863) الذي عمل على استمرار روح التسامح الديني والمساواة بين المسلمين والأقباط؛ إذ طبق قانون الخدمة العسكرية على الأقباط وألغى الجزية التي كانت مفروضة على المصريين الأقباط في مقابل الدفاع عنهم، إذ لم يكن التحاقهم بالجيش مسموحاً، وفي عهده دخل الأقباط، لأول مرة، في سلك الجيش والقضاء وسافر بعضهم إلى أوروبا للدراسة. كما عين حاكماً مصرياً مسيحياً على مصوع بالسودان وهو إجراء يُميز عهده وفقاً لرؤية المفكر العربي عزمي بشارة، في كتابه "هل من مسألة قبطية في مصر؟" إذ رسخ ذلك التعيين، مبدأ استفادة مصر من كفاءاتها بغض النظر عن الديانة والمعتقد.
في عصر الخديوي إسماعيل باشا (1863-1878)، ترشح الأقباط لانتخابات مجلس الشورى، وتم تعيين قضاة من الأقباط في المحاكم، إذ شغل واصف باشا وظيفة كبير التشريفات وآخرون في عهده كما جاء في كتاب جاك تاجر (ص241).
ويرى العديد من الباحثين أنّ طبيعة النظام الاقتصادي في العهد الخديوي والمعتمد على الفئات البرجوازية والإقطاعية أفسح المجال للنّخب القبطية للتعاطي بإيجابية مع النّظام السياسي، إلى حدّ جعل بعضهم يصف العهد الخديوي بالعصر الذهبي للأقباط في تاريخ مصر الحديث، بناءً على مؤشّرات عديدة أبرزها الانتقال في التعاطي معهم من "نظام الملل" إلى اعتبارهم "مواطنين" في الدولة الحديثة، إضافة لازدياد مستوى ونوعيّة مشاركتهم السياسية.
واستمرت أوضاع المكون المسيحي المصري في التحسن والاندماج مع الجماعة الوطنية في كافة مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية في المرحلة الملكية، إذ جرى العرف منذ عام 1883 على تعيين قبطي واحد في كلّ وزارة، ثم ارتفع عددهم إلى اثنين لأوّل مرّة عام 1924 عندما شكّل سعد زغلول وزارته.
وخلال العهد الملكي (فؤاد وفاروق) تم تعيين قبطيين في منصب رئاسة الوزراء، وهو ما لم يقع بعد ذلك في مصر، أولهما بطرس باشا غالي رئيساً للوزراء، والذي قتل على يد الشاب إبراهيم ناصف الورداني في 20 فبراير 1910، في حادثة اعتبرها المستشار طارق البشري فى كتابه "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية" بعيدة عن أي بعد طائفي، كما تم كذلك تعيين يوسف وهبة باشا (1919-1920) رئيساً للوزراء، وشهدت أوضاع الأقباط في عهد الملك فاروق تطوراً مهما يتمثل في تطبيع العلاقة بين الأقباط وجهاز الدولة المصرية، إذ تبوأ الأقباط منصب الوزارة قرابة 12 مرة في فترة حكمه؛ وهو ما يعد الرقم الأكبر في تاريخ مصر الحديث.
الأقباط والملكية سبعة ملامح مركزية
يمكن القول إن الدولة المصرية في الفترة الملكية لم يكن لها موقف سلبي من الأقباط؛ إذ ظهرت الرموز القبطية بوضوح في المجالس النيابية والحكومات على أنها ممثلة للمصريين جميعا، مثل القيادي الوفدي ووزير المالية الأسبق مكرم عبيد (1889-1961) أحد أهم رموز الحركة الوطنية المصرية، كما لم يكن للكنيسة المصرية دور واضح في الشأن العام خلال تلك الفترة؛ إذ تميزت هذه المرحلة بالفصل الواضح بين الرموز الدينية والرموز المدنية للأقباط، وكان ظهور الرموز الدينية في الأحداث العامة محدودًا جدًا، ويتعلق بالقضايا ذات الإجماع الوطني مثل مقاومة الاحتلال، كما حدث خلال ثورة 1919 التي أيدها البابا كيرلس الخامس، وتمت الدعوة لها في الكنائس والمناسبات الدينية المسيحية كما شارك القساوسة ورجال الدين في المظاهرات.
فى ضوء ما تقدم يمكن رصد تأثير فترة حكم الملكية المصرية وتفاعلها مع المكون المصري المسيحي من سبع زاويا:
أولاً: انفتح المكون المصري المسيحي على المجتمع خلال تلك الفترة وشارك بقوة في قضاياه العامة.
ثانياً: تكونت ذاكرة وطنية مُنصفة وجامعة للمصريين ما زالت صالحة للاستخدام إلى وقتنا الحالي، لا تفرق بين المسلم والمسيحي؛ إذ ما يزال شعار "عاش الهلال مع الصليب" وشعار "الدين لله والوطن للجميع" له صدى في آذان المصريين.
ثالثاً: أبرزت تلك الفترة رموزاً وطنية مسيحية منحازة للوحدة الوطنية ومتواصلة مع وجدان الأغلبية المسلمة، (الزعيم مكرم عبيد نموذجاً)، وغير متعارضة مع الانتماء للفضاء الإسلامي الحضاري.
رابعاً: رسمت تلك الفترة طبيعة العلاقة المتزنة الواجب اتباعها في تدبير إدارة الجماعة الوطنية؛ إذ لم تلعب الكنيسة المصرية دوراً سياسياً يتنافى مع رسالتها وأهدافها، ولم يتمترس المكون المصري المسيحي خلفها، وإنما انفتح على الجماعة الوطنية والسلطة من بوابة المساواة والمواطنة والشراكة.
خامساً: قدمت تلك الفترة نموذجا في إمكانية الشراكة والعمل سويا بين مكونات الجماعة الوطنية المصرية (نموذج حزب الوفد الليبرالي الذي جمع بين الزعيم سعد زغلول الأزهري والقائد السياسي مكرم عبيد).
سادساً: العلاقة المتجانسة بين فئات الجماعة الوطنية المصرية (المسلمين والمسيحيين) مكنت مصر من الحصول على استقلالها من الاستعمار البريطاني وقوضت حجج الاحتلال في أنه جاء يحمي "الأقلية المسيحية" من الاضطهاد! إذ أعلن الإنكليز في 28 فبراير/شباط عام 1922 تصريحا فيه تحفظاتهم الأربعة، ومنها بقاؤهم في مصر لحماية الأقليات، وهنا يأتي موقف القمص سرجيوس الوطني عندما وقف على منبر الأزهر ليقول "إذا كان الإنكليز يتمسكون ببقائهم في مصر بحجة حماية القبط، فأقول ليمت القبط وليحيا المسلمون أحرارا"، وكانت عبارته، تحمل أبلغ تعبير عن رفض ما يسمى بالحماية الإنكليزية للأقلية، كما يقول المستشار طارق البشري.
سابعاً: خلقت تلك الفترة لمصر وجهاً حضارياً جاذباً فى قيم التسامح والتواصل والحفاظ على الوحدة الوطنية، إذ أرسل الزعيم الهندي المهاتما غاندي رسالة إلى سعد زغلول يهنئه على نجاحه في وحدة الصف المصري، وفق رواية الدكتور إدوار غالي الدهبي في كتابه "النموذج المصري للوحدة الوطنية"، قائلا في كتابه "إن سعد باشا قد نجح في مصر في ما لم يستطع غاندي أن يحققه في الهند، إذ لم تكلل جهود غاندي في الحفاظ على وحدة المسلمين والهندوس في الهند بالتوفيق".
الأقباط في المرحلة الجمهورية
مع انتهاء الفترة الملكية فى مصر على يد حركة الضباط الأحرار دخلت عدة متغيرات على طبيعة علاقة المكون المصري المسيحي بالجماعة الوطنية، وعلى فلسفة العلاقة بين السلطة ومؤسسات ورموز المسيحيين المصريين؛ إذ بدلاً من تواصل السلطة بالمكون المسيحي عبر بوابة المواطنة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني أصبح التواصل والحوار والضغط والتدافع يتم عبر مؤسسات الكنيسة المصرية حصراً ورجالاتها، بداية من البابا وانتهاءً بالقساوسة والرهبان، وبهذه الطريقة انسحب المكون المصري المسيحي بالتدريج من المشاركة المجتمعية مع الجماعة الوطنية فى كافة الأنشطة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وأصبحت معادلة السلطة والدولة مع المكون المسيحي قائمة على هذه الاستراتيجية "المسيحيون في جيب البابا والبابا في جيب السلطة"، حسب تصريح المُفكر القبطي ميلاد حنا في كتاب أزمة الأقليات في الوطن العربي.
الأقباط في عهد عبدالناصر
أيد الأقباط بشكل عام حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952، وجاء وصول الرئيس جمال عبدالناصر إلى السلطة متزامنًا مع تحولات داخل الكنيسة القبطية تمثلت فى وصول البابا كيرلس السادس إلى مقعد البابوية، ساعيا إلى تعميق العلاقة بالدولة.
ويصف محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب" العلاقة بين كيرلس وعبد الناصر بـ"الإعجاب المتبادل"، وهو ما سهل من عقد شراكة بين الرجلين ضمن من خلالها عبد الناصر ولاء الكنيسة ودعمها لنظامه الجديد مقابل عدم تدخله في الشأن الداخلي للكنيسة، وعلى الرغم من العلاقة الجيدة للأقباط بالدولة في تلك الحقبة إلا أن التوجه العام للدولة بمعاداة الأجانب الذين كانت تربطهم ببعض الأقباط مصالح مشتركة، أسهم في هجرة عدد كبير من النخبة القبطية خارج مصر، ومع مرور الوقت برزت لدى المكون المسيحي أربعة مخاوف وتحفظات على حركة الضباط الأحرار جمعها مركز المسبار للدراسات والأبحاث في بحثه "الأقباط في مصر بعد الثورة" وفق التالي:
أولاً: عدم وجود تمثيل مسيحي نهائياً فى تركيبة الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة.
ثانياً: تقارب الضباط الأحرار مع جماعة الإخوان المسلمين من حيث الخلفية الأيديولوجية والتاريخية وإبقاء جماعة الإخوان المسلمين وعدم حلها مع قرار إلغاء الأحزاب.
ثالثاً: لجوء حركة الضباط الأحرار إلى سياسية تأميم المشاريع والممتلكات التي طالت العديد من المسيحيين.
رابعاً: إلغاء الرئيس عبد الناصر انتخابات المجلس الملي الذي كان يُدير شؤون الكنيسة.
وعلى الرغم من ذلك، إلا أن عبد الناصر استعان بالتكنوقراط الأقباط في حكوماته، من بينهم الدكتور كمال رمزي استينو التي عينه وزيراً للتموين، وكمال هنري أبادير وزير المواصلات، كما عين عشرة أعضاء مسيحيين في البرلمان وفقاً لتعديل أدخله على دستور 1956.
الأقباط في عهد السادات
أحدثت هزيمة يوليو 1967 تغييرات كبيرة في بنية وشرعية النظام الناصري؛ مما سبب فراغاً أيديولوجياً كبيراً لدى الجماهير، وعقب وفاة عبد الناصر وتولي الرئيس السادات، تلقف التيار الإسلامي الفرصة وبدأ في ترسيخ أيديولوجيته الإسلامية باعتبارها الحل لمشاكل الوطن، وقتها وقع تقاطع مصالح استراتيجي بين التيار الإسلامي ورغبة السادات في محاصرة التيار اليساري المعارض عبر فتح مجالات العمل السياسي للتيار الإسلامي؛ وهو ما جعل البابا شنودة يرى في سياسة السادات هذه تهديدًا للأقباط، وزادت مخاوف الكنيسة بعد إقدام السادات على تعديل دستور عام 1971 وجعله الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وفي تلك الأجواء تكثف التوتر بين السادات والكنيسة والأقباط فوقعت العديد من الأحداث الطائفية ومن أبرزها أحداث كنيسة الخانكة عام 1972 والتي يعدها البعض أول أحداث طائفية في تاريخ مصر الحديث، ورد البابا شنودة على ما جرى للكنيسة، عبر إرسال عدد كبير من الأساقفة والمطارنة قرابة 400 شخص إلى ما بقي من مبنى الكنيسة ليقيموا القداس على أطلاله، وأدى ما جرى في المؤتمر المسيحي في 17 يناير/كانون الثاني 1977 والذي عُقد لمناقشة حزمة القوانين المُتعلقة بتطبيق الشريعة الإسلامية والمعروضة على البرلمان؛ إلى تعميق المشكلة الطائفية، إذ جاء في البيان الأول الصادر عن المؤتمر بأن الأقباط يمثلون "أقدم وأعرق سلالة" في الشعب المصري، كما أن زيارة البابا شنودة إلى الولايات المتحدة في إبريل عام 1977 ولقائه بالرئيس كارتر تسببت فى زيادة حده التوتر بين السادات والبابا، وكان الصدام الطائفي في حي "الزاوية الحمراء" الذي وقع في يوليو/تموز 1981 وإحراق منازل المصريين الأقباط، من أخطر الحوادث الطائفية التي جرت في مصر، ورسخت الحادثة من العلاقة المتوترة بين الرئيس السادات والبابا شنودة، والذي كان من أهم المعارضين لاتفاقية السلام مع إسرائيل، الأمر الذي دفع السادات إلى إصدار قرار بتحديد إقامة البابا بدير في وادي النطرون وتشكيل لجنة لإدارة الكنيسة.
الأقباط في عهد مبارك
تميزت العلاقة بين الكنيسة والدولة عقب تولي الرئيس مبارك للسلطة بالهدوء؛ إذ سعى مبارك إلى تدعيم علاقته بالكنيسة، الأمر الذي أسهم في تشكيل نمط جديد للعلاقة صار فيه البابا شنودة هو الوسيط ما بين الدولة والأقباط والممثل الوحيد لهم وتكشف الشواهد التالية عن نوعية العلاقة بين الكنيسة ونظام مبارك، إذ تنازل النظام عن جزء من سلطة الدولة على مواطنيها الأقباط لصالح الكنيسة في مقابل منح ولائها للنظام السياسي وخياراته؛ وهو ما ظهر في العديد من المواقف، أهمها دعم الكنيسة مشروع التوريث لجمال مبارك حتى إن البابا قال إن "جمال مبارك هو الأصلح لتولي الحكم بعد والده" في لقائه مع عمرو أديب في حلقة القاهرة اليوم بتاريخ 5 يناير/كانون الثاني 2010.
وتباين تقييم الأقباط لعهد مبارك وفق اتّجاهين، الأول: ينظر بإيجابية إلى فترة مبارك عندما يُقارنها بعهد السادات؛ ويدلل على ذلك بالمرونة الـ "نسبية" في إجراءات بناء الكنائس، واعتبار عيد الميلاد عطلة رسمية. وينظر الاتجاه الثاني، بسلبية إلى عهد مبارك باعتبار أنّ الشارع المصري أصبح أكثر طائفية من ناحية، ووقوع العديد من الاعتداءات على الكنائس مثل تفجير كنيسة القديسين في يناير 2011.
الأقباط وفترة حكم المجلس العسكري
عقب اندلاع ثورة 25 يناير 2011 وتنحي الرئيس مبارك تولى المجلس العسكري إدارة شؤون البلاد حتى 30 يونيو/حزيران 2012. خلال تلك الفترة شهدت علاقة الأقباط والكنيسة بالسلطة منعطفاً جديداً، إذ بدأ المكون المسيحي للمرة الأولى فى التحرك الاجتماعي والسياسي خارج هيمنة الكنيسة؛ ووفقاً لما ذكرته الباحثة في الشأن القبطي، مي مجيب، فإن الأقباط كونوا العديد من الائتلافات القبطية بعيداً عن الكنيسة في تلك الفترة، مثل ائتلاف شباب ماسبيرو، كما أن هاله شكر الله أصبحت أول مصرية مسيحية تترأس حزباً (الدستور)، وشارك الأقباط في تأسيس أحزاب سياسية مثل "المصريين الأحرار"، و"الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي"، إلا أنه هيمنة الكنيسة على المكون المسيحي سرعان ما عادت مع أول مشهد سياسي عندما تحول استفتاء 19 مارس/آذار 2011 على التعديلات الدستورية إلى استفتاء على الهوية وما نتج عنه من استقطاب طائفي.
عززت الأحداث الطائفية التى وقعت في فترة حكم المجلس العسكري من هيمنة الكنيسة وخاصة حادثة هدم كنيسة "صول" في الجيزة في مارس/آذار 2011، ثم هدم كنيسة المريناب بأسوان في سبتمبر/أيلول 2011، ثم وقوع حادث ماسبيرو المؤلم في أكتوبر/تشرين الأول 2011.
الأقباط في عهد مرسي
جاء فوز الرئيس محمد مرسي بمقعد الرئاسة ليعزز المخاوف التاريخية للأقباط من الإسلام السياسي، ولم يبدد تلك المخاوف تعيين سمير مرقص مساعدا لرئيس الجمهورية في مصر، في سابقة هي الأولى من نوعها.
وتزامن تولي البابا تواضروس منصبه رسميًا بطريركاً للأقباط الأرثوذكس، مع انفجار أزمة الإعلان الدستوري المكمل، التي اصطف أثناءها العديد من النخب المسيحية في خندق الرافضين للإعلان، وشاركوا في المظاهرات المناهضة له، كما انسحب ممثلو الكنيسة من الجمعية التأسيسية للدستور، ثم جاءت بعض الأحداث الطائفية التي وقعت في عهد مرسي لتشكّل نقطة تحول أخرى دفعت الأقباط أكثر للاحتماء بكنيستهم، وبدا ذلك جليًا في البيان غير المسبوق الذي أصدره المجلس العام للأقباط، والذي ألقى بالمسؤولية على الرئيس والدولة تجاه العنف الذي جرى أمام الكاتدرائية بالعباسية، وندد بسكوتهما على ما وصفه بالتواطؤ المشبوه لبعض العاملين بأجهزة الدولة التنفيذية تجاه حماية أبناء الوطن وممتلكاتهم ودور عبادتهم.
ومع احتدام السجال السياسي بين التيار المدنى وتشكيل جبهة الإنقاذ المعارضة لمرسي أصبح اشتباك الكنيسة بالحراك السياسي بارزاً وجلياً وتجلى فى حضور البابا تواضروس بيان إعلان عزل الرئيس محمد مرسي المُنتخب يوم 3 يوليو/تموز 2013.
الأقباط والسيسي
عقب الإطاحة بالرئيس محمد مرسي فى يوليو/تموز 2013، وما تلى ذلك من صراع سياسي في مصر اشتبكت الكنيسة المصرية، ومعها العديد من النخب المسيحية السياسية بشكل كثيف في ذلك الصراع، عبر دعم الفريق السيسي في صراعه مع حركة الإخوان المسلمين والحركات المعارضة للانقلاب، إذ أدلى البابا تواضروس بتصريحات رسمية مؤيدة لترشح السيسي لرئاسة مصر، وتصريح البابا تواضرس في جريدة الأهرام عبر مقال يدعو فيه الأقباط للتصويت بنعم على الدستورالجديد "لأنها تزيد النعم".
وأجرى البابا تواضرس في مارس/آذار 2014 حواراً مع صحيفة الوطن الكويتية، وصف فيه ثورات الربيع العربي بـ"الشتاء العربي"، وقال إنها مُدبرة بأيد خارجية لتقسيم المنطقة، كما أدلى البابا تواضروس بتصريح لقناة التحرير قال فيه إنه "لا مجال للحديث عن حقوق الإنسان في ظل الإرهاب الذي تتم ممارسته في مصر"، وهو ما دفع مؤسسة شباب ماسبيرو لحقوق الإنسان إلى مطالبة الكنيسة بتقديم اعتذار، كما واصل البابا سلسلة تصريحاته المثيرة للجدل، إذ قال في حوار له على قناة سكاي نيوز: "إن حادث ماسبيرو هو خدعة كبيرة من قبل الإخوان، والتأكيد على أن الإخوان استدرجوا الأقباط لمواجهة مع الجيش ثم تركوهم في ماسبيرو ليواجهوا مصيرهم".
الأحداث الطائفية منذ انقلاب يوليو حتى رئاسة السيسي:
وقعت أحداث طائفية عديدة ضد الأقباط منذ إعلان الفريق (وقتها) عبد الفتاح السيسي تعطيل أحكام الدستور، وعزل مرسي وتولي المستشار عدلي منصور مهام الرئاسة، إذ خُربت العديد من الكنائس والأديرة بعد مذبحتي فض رابعة العدوية والنهضة، وبلغ عدد الكنائس التي تعرضت للأذى قرابة 40 كنيسة وقتل 4 مصريين مسيحيين، وفق إحصاء منظمة العفو الدولية، وتلا ذلك عدد من الأحداث الطائفية المختلفة، من بينها قتل وتهجير عائلات مسيحية في مختلف أنحاء مصر، غير أن أخطر هذه الحوادث تمثل في تفجير كاتدرائية القديس مرقس في القاهرة في ديسمبر/كانون الأول 2016، والذي قُتل على إثره 25 شخصاً، وأصيب 31 آخرون في الكاتدرائية المرقسية في العباسية بمدينة القاهرة.
سبعة متغيرات قبطية جديدة
يمكن القول إن سبعة متغيرات جديدة، كان لها تأثير كبير على المصريين المسيحيين في مرحلة ما بعد تأسيس الجمهورية المصرية على يد الضباط الأحرار في عام 1952 وما تلاها من أنظمة حكم وصولاً إلى فترة حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهي:
أولاً: أصبح للكنيسة اشتباك مع السياسة بشكل أعمق وأكبر عن المرحلة الملكية؛ إذ أصبحت العلاقة قائمة على فكرة "الكنيسة القابضة والدولة الحامية" بمعنى إطلاق يد الكنيسة في الاستحواذ على الأقباط مقابل عدم معارضة النظام باعتباره الحامي للأقباط.
ثانياً: مراهنة الكنيسة على السلطة لنيل حقوق المكون المسيحي وتحقيق استقراره وتنفيذ مطالبه.
ثالثاً: استبعاد النخب العلمانية المصرية المسيحية من التواصل والحوار، سواء مع النظام أو مع مكونات الجماعة الوطنية.
رابعاً: انسحاب أفراد المكون المصري المسيحي من الاهتمام بالشأن العام إلى سياسة الانكفاء الداخلي.
خامساً: تحول المكون المصري المسيحي من فلسفة تحقيق الحقوق والمشاركة في الواجبات عبر المشاركة مع الأغلبية بروح الجماعة الوطنية إلى الاعتماد على قوة السلطة في نيل المطالب.
سادساً: تهديد المكون المصري المسيحي بورقة الضغط الخارجي من أجل الحصول على مكاسب أو رفع المظالم الداخلية.
سابعاً: وجود بوادر لتدويل بعض مظالم الأقباط عبر تكوين لوبيات ضغط سياسي مسيحية في كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية؛ من أبرزها "أقباط المهجر".
باختصار يمكن وصف علاقة الأقباط بالدولة المصرية، خلال الفترة الملكية، بـ"المزدهرة" في ظل مناخ أكثر احتراما لحقوق الإنسان ودمجا لمكونات الشعب المصري في بوتقة الدولة الوطنية، في حين اتسمت هذه العلاقة بـ"التوتر" في عهود الجمهورية التي تراجعت فيها الحريات وحقوق الإنسان.