أفلام طالبية لبنانية: حيوية اللغة وجمالياتها

13 يوليو 2018
من "طَعْمي السمكات" لمارك سلامة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
للتجربة الطالبية في لبنان أهمية يُحسَب لها. الجامعة اللبنانية مؤسّسة فاعلة رغم مصاعب جمّة تواجهها يوميًا، جرّاء الانشقاقات الحاصلة في البلد، سياسيًا وطائفيًا ومذهبيًا. لكنها، رغم هذا، قادرةٌ على تخريج طلابٍ يمتلكون حساسية ثقافية ووعيًا جماليًا في اختصاصات يختارونها نهجًا لهم في الحياة والمهنة. "قسم السينما والتلفزيون" (التابع لـ"كلية الفنون الجميلة والعمارة") دليلٌ على حضورٍ طالبيّ غير مكتفٍ بالأكاديمي والنظري فقط، لامتلاك طلاب عديدين مخيّلة بصرية معطوفة على ثقافة سينمائية وحماسة فنية للتعبير بالصورة. 

تجربة كهذه ينفضّ عنها نقّاد وصحافيون سينمائيون، يعتبرونها خطوة جامعية هي مجرّد انتقالٍ إلى الحياة والمهنة. يستند هؤلاء إلى مواقف سينمائيين كثيرين في العالم إزاء أفلام التخرّج الخاصّة بهم، إذْ يضعونها في إطارٍ ضيّق يتجاوزونه إلى الأفضل والأحسن والأهم. هذا صائبٌ. لكن أفلامًا عديدة تُنجَز داخل أروقة جامعة أو معهد أو مدرسة أو كلّية تعكس شيئًا حقيقيًا من النواة الثقافية والجمالية والمعرفية لطلاّب، بعضهم يثابر لاحقًا على اشتغالٍ سينمائيّ. طلاّب "قسم السينما والتلفزيون" يؤكّدون غالبًا أن لديهم ما يشي بموهبة ووعي معرفي ومخيّلة خصبة بالصُور والمعاني والبوح، قادرة كلّها على تفعيل مسارٍ سينمائيّ إنْ يتمكّن هؤلاء من تجاوز عقبات العيش في بلدٍ مُشلّع على سلبيات وانهيارات وفوضى وارتباكات.




التجربة تزداد فاعلية وتأثيرًا إيجابيًا، وتؤكّد أن الإمكانات القليلة لن تحول دون ابتكار بصري لبوحٍ أو مقاربة أو اشتغالٍ "حِرفيّ" (وإنْ يكن يحتاج إلى صقلٍ وتشذيب وتغذية)، وأن الأهمّ كامنٌ في النصّ المكتوب وترجمته العملية، الموزّعة على تنفيذ التقنيات كلّها بلغة صائبة. الجامعة اللبنانية تُحارَب، كبقية مؤسّسات الدولة المنهارة. لكن طلابًا يسعون إلى نيل شهادات "ماستر" في السينما يُثبتون أن المخيّلة والوعي البصري والثقافة السينمائية والحساسيات المختلفة التي يُنمّيها كلّ واحد منهم في ذاته يومًا تلو آخر، أمورٌ تُعين على تجاوز المطبّات من أجل هدفٍ أرقى: العمل السينمائي.

رغم مخاوف ماثلة إزاء ضيق أفق العمل السينمائي، خصوصًا بالنسبة إلى طلابٍ يُعبّرون عن حيوية إبداعية في صُنع ما يشي بإنتاج مُثير للانتباه والمتابعة، إلاّ أن هؤلاء الطلاب أنفسهم غير آبهين إلاّ بما يُرضي رغباتهم وطموحاتهم الأولى على الأقلّ، فيُنجزون أفلام التخرّج في شهادة الـ"ماستر"، وبعضها يُنبِّه إلى براعة "السينمائيّ" في مُنجزيها وتمكّنه من صوغ صُوَر متكاملة. والأفلام تلك متفاوتة في مستوياتها الفنية والجمالية والبصرية، كما في آليات المعالجة الدرامية، ومرتكزة على كوميديا سلسة وفُكاهة ساخرة ودراما قاسية تعكس شيئًا من بؤس إنساني مُدمِّر.

في الأحوال كلّها، تبقى الأفلام الـ12 ـ المُنجزة ضمن إطار الـ"ماستر 2018" (1 و2) بإشراف أساتذة "قسم السينما والتلفزيون" المخرجين سمير حبشي وبهيج حجيج وبيار سلوم ومدير التصوير ميلاد طوق ومهندس الصوت رائد يونان، علمًا أن لجنة التحكيم تضمّ إلى هؤلاء الناقد جورج كعدي والمسرحية لينا خوري (لكلّ واحد منهم حضورٌ فني متنوّع في المشهد الثقافي ـ الفني اللبناني والعربي) ـ عنوانًا بارزًا في المشهد الطالبيّ، يُشير إلى ثنائية يُعوَّل عليها: تدريس يمزج الأكاديمي بالعمليّ، ويُتيح للطلاب مجالاً لقولٍ غير مُقيّد إلاّ بالهمّ السينمائيّ ولغة الصورة؛ وحماسة طلاب يختارون السينما كحيّز يتيح لهم معاينة مختلفة لأحوالٍ وانفعالات ومشاغل.

الملاحظة الأولى كامنةٌ في أن الأفلام الـ12 كلّها ـ رغم حاجة بعضها إلى مزيدٍ من الاشتغال لتخبّطه في ارتباك الاستخدام المطلوب للأدوات السينمائية ـ تلتقي عند حماسة الطلاب جميعهم إزاء السينما، وعند امتلاكهم ـ وإنْ بتفاوتٍ ـ شغفًا كبيرًا بالصورة، وقناعة ثقافية وجمالية وإنسانية بالإمكانات الكبيرة للصورة نفسها كلغة تعبير وبوح. والملاحظة الثانية الجامعة للأفلام نفسها كامنةٌ في تنويع المواضيع المنبثقة من واقعٍ حياتي يومي، يبدو غنيًّا بحكايات يتمكّن بعض الطلاب على الأقل من تقديمها باختلافٍ وتجديد لافتين للانتباه.

وإذْ تبرز الفُكاهة في فيلمين اثنين ("هابّي أندينغ" لرمزي الخوري و"طَعْمِي السمكات" لمارك سلامة) يعكسان جمالية السُخرية ونسقها البصري المروي بإيقاعٍ هادئ ينفتح على أحوال بيئة وخرابها وعلى انفعالات أناس وأهوائهم ومسالكهم، فإنّ معاناة ذاتية في العلاقة الملتبسة أو المرتبكة بالأم ستكون انعكاسًا لأسئلة المخبّأ أو المنسيّ أو المقبل من الأيام، إنْ ينتج هذا كلّه من موتٍ يفتح أبواب الماضي غير المعلوم ("ابن الرقاصة" لجورج هزيم)، أو يُوثِّق الماضي بالصورة كي يُحصّنه من الاندثار المتأتي شيئًا فشيئًا من تنامي الـ"ألزهايمر" ("شو اسمك" لنور المجبّر). بينهما، يُطرح سؤال العلاقات الانفعالية في معالجة تستند إلى تلاعب الإضاءة والتصوير في ابتكار أبعادٍ مختلفة للحبكة ولمعالجتها، وللشخصيات ومساراتها ("صورة، فندق وهي" لاسطفان خطّار).

للتجريب السينمائي حضورٌ أيضًا في أفلام تعكس شغف مخرجيها بالذهاب بعيدًا في تحويل الصُور إلى نوعٍ من مشاغبة جمالية في سرد الحكاية، كأنّ السرد هنا ينساق إلى عمق الصمت ودعمه الأساسي في كشف خفايا النص وفضائه الإنساني والجمالي ("RGB" لجاد سليمان)، أو يوازن بين كلامٍ مُختَزَل وصُور تتماهى بالشخصيات كي تروي وقائع وحالات ("كاكتوس" لناي عازار و"حبيبتي الشمس" لإيلي سلامة). فالأول يمزج بدايات التكوّن البشري براهن الحياة، ويضع ماضي الإنسان في مواجهة أزمات العيش؛ بينما يعكس الثاني ارتباكاتِ شابّةٍ إزاء علاقاتها الملتبسة بأمٍ وصديقة ولوحة وعيشٍ. والثالث، إذْ يُركِّز على ألم جسدٍ لن يتمكّن من جمال الروح في مواجهة التحدّيات، يمارس غواية التوليف في ابتكار متتالياته البصرية في تكوين المشهد المتكامل لشابٍ يتخطى وجعه كي تغتسل روحه فيولد من جديد.

في مقابل هذا كلّه، تعاني 3 أفلام وطأة القضية أو الإيديولوجية أو الموضوع، إذْ يكاد الجانب السينمائي يختفي إزاء ثقل الحكاية. فالاعتقال السياسي في "ورق الشام" لجنان أبي صعب الفغالي طاغٍ على بعض جمالية التنقّل البصريّ بين الزنزانة والمنزل، في لقاء يُراد له أن يكون متساويًا بين قسوة الاعتقال (الزوج) و"رفاهية" عيشٍ لن يكون مختلفًا كلّيًا عن رهبة الاعتقال أيضًا، إذْ لن تخرج الزوجة من المنزل إلاّ لزيارة المُعتَقَل. وأحوال البيئة الحاضنة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، في "ورد الله" لمحمد هادي أحمد، طاغية بدورها على السينما، ما يستدعي تنبّهًا ضروريًا لمنح السينما حقّها البصري في مواكبة السرد المرتكز على علاقة جدّ بحفيدته التي تفقد والدها في قصفٍ على البلدة. في حين أن المعاناة الفردية إزاء الفقدان، والعيش في ظلّ وحشية تسلّطية داخل منزل زوجي، يُتيحان لسطوة الحكاية في "العبور الأخير" لدلال نقوش تغييبًا ما لفاعلية الصورة في القول.

لكن المُشترك بين الأفلام الـ3 تلك يبقى واضحًا: شغف السينما. هذا كافٍ للتأكّد من إمكانية التصويب التي يتمتّع بها الطلاب الـ3، إذْ لديهم القدرة على التوفيق بين نصٍّ ومعالجة، إنْ يتنبّهوا إلى ضرورة الحضور السينمائي في معاينة المواضيع كلّها.

في المقابل، يتميّز "بالبيك آب" لليال عقيقي (العنوان الإنكليزي مختلفٌ قليلاً: Pick Me Up) بخليطٍ سينمائيّ واضح بين فُكاهة وسخرية وواقعية، ونبضٍ سرديّ سلس ومتماسك، وإيقاع سريع يُحافظ على متانة الحبكة ومناخها الإنساني: مُنتجة منفّذة تعاني الأمرّين في يوم طويل. تلاحقها الكاميرا (جان أبو عبده) في خطواتها كلّها، إذْ يُطلب منها ترتيب الأمور الضرورية لبدء تصوير عملٍ ما، علمًا أن الموعد الأخير لتقديم مشروع خاصٍ بها يقترب، وصديقها غير داعم لها، والفوضى منفلشة حولها، والضغوط عليها جمّة. الأهمّ كامنٌ في متانة السيناريو وحيوية الإيقاع والتصوير وجمالية اللقطات المتتالية التي توحي كأنّ هناك "لقطة واحدة" تصنع فيلمًا، وهذا تحدّ كبيرٍ توحي عقيقي بتمكّنها منه.

هذه نماذج طالبيّة تؤكّد أن الخراب اللبناني لن يحول دون الإقدام على مغامرة الصناعة البصرية الجادّة.
المساهمون