تعرض الصالات الفرنسية حالياً فيلم "الإيكسورسيسم" أو التعزيم (فعل طرد الشياطين من أجساد الملبوسين) الجديد؛ "ملفات الفاتيكان السرية" (The Vatican tapes). إذا كان الفيلم لا يشذ عن السياق الروتيني للنوع، فثمة تفصيل واحد ممكن أن يستوقفنا فيه. حينما تُرسَل المرأة التي استحوذ عليها الشيطان إلى مصحّة للأمراض العقلية، يتّضح أن الشيطان قادر كذلك على التحكّم بكل المرضى الآخرين؛ أي أنهم جميعاً ملبوسون بدورهم، أو قابلون للاستحواذ.
يبدو هذا التجرّؤ على تلك الفئة الاجتماعية الهشة مفاجئاً، لو أخذنا بالاعتبار أن الكنيسة اضطهدت المرضى العقليين والنفسيين لقرون، وأحرقت عدداً لا يحصى منهم أحياء أو أهلكتهم على أيدي المعذِّبين العزّامين. كما هو معروف، فأفلام التعزيم تستنسخ بعضها منذ فيلم "المعزّم" الشهير لويليام فريدكين في السبعينيات.
يدّعي الفيلم دائماً أنه يستلهم قصة حقيقية. يبدأ مع ظهور دلائل الاستحواذ الشيطاني لدى طفلة أو امرأة (الشياطين الهوليوودية تفضل الجنس اللطيف بوضوح).
يلجأ الأهل والمقرّبون إلى وسائل العلاج الحديثة (الطب النفسي) التي تُظهر قصورها، وهنا يَظهر المعزّم، الفارس القروسطي المنقذ. هناك نمطان يشكّلان العلامة الفارقة للاستحواذ الشيطاني الهوليوودي، الذي يكاد يكون مقتصراً على النساء:
السلوكيات الحيوانية المطعّمة بالشهوانية الجنسية (الأنثى تزأر وتأكل اللحم النيّئ وتقوم بحركات جسمية آلية تحاكي تلك الخاصة بالزواحف والحشرات)، والسلوكيات الذكورية (الأنثى تصيح بصوت خشن وتُظهر قوة جسدية تفوق قوة المعزّم وأولي أمرها من الرجال الذين يحضرون جلسة التعزيم).
الأنثى التي يختارها الشيطان الهوليوودي هي غالباً نموذج للبراءة والعفة المسيحية، وتُختم عملية التعزيم حين يُجبر الشيطان على النطق باسمه، فيغادر عندها جسد المحروسة التي تعود إلى طبيعتها الطاهرة.
غني عن القول، إن أسطورة التعزيم تعكس صورة المرأة في العقيدة المسيحية: عليها أن تكون طفلة أبدية على صورة الأم العذراء، وكل ما يخرج عن تلك الصورة اليوتوبية هو رجس من عمل الشيطان. ولا تخفى القناعة البطرياركية التي تضمرها تلك الصورة: المرأة كائن شيطاني وحيواني متوحش يجب ترويضه.
يخطئ من يعتقد أن التعزيم المسيحي ممارسة قروسطية لم يعد لها وجود إلا في الأفلام. ما زالت الكنيسة تعطي الكهنة دروساً في التعزيم وتخرّج كل سنة الآلاف من المعزّمين المختصّين. لدى كل أبرشية كاثوليكية معزّم خاص بها، وهؤلاء يمارسون صنعتهم بكل حرية حتى في فرنسا، قلعة العلمانية الغربية.
عملياً، لا يوجد أي رادع قانوني يمنع عائلة فرنسية مقتنعة أن طفلها ملبوس من أن تخضعه لجلسة تعزيم كاثوليكية. منذ فترة قصيرة، أصدر غابرييل أمورث، رئيس قسم التعزيم في الفاتيكان، كتاباً بعنوان "اعترافات" يتكلم فيه عن جلسات تعزيم أجراها على أطفال بعمر السنتين أو الثلاث.
الشرطة لا تتدخّل إلا عندما يؤدي التعزيم إلى أضرار جسدية، مع أن مهزلة التعزيم نفسها من شأنها أن تتسبب بأضرار نفسية لا تحصى لدى الطفل المعني، خصوصاً إن كان هذا الأخير يعاني من مشاكل نفسية أو عقلية ويحتاج إلى مساعدة مُختصّ، فيأتي التأويل الميثولوجي ليزيد الطين بلّة.
كل سنة، تشغل الإعلام الغربي حالات مأساوية لأطفال وبالغين يموتون تحت جلسات التعزيم. وإن كان عدد هذه الحالات محدوداً في الغرب، فهو يأخذ مدى مخيفاً في العالم الثالث، حيث العمق الديموغرافي للعالم المسيحي؛ في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. كما أن بابوات الكنيسة أنفسهم يمارسون التعزيم.
بحسب كتاب أمورث؛ قام البابا جون بول الثاني بثلاث جلسات تعزيم في سياق مهامه البابوية. كما أن البابا فرانسوا، وبعد فترة قصيرة من انتخابه، قام بما يبدو أشبه بعملية تعزيم لرجل مقعد أمام الكاميرا، والفيديو أثار ضجة في الإعلام الغربي وهو متوفر على موقع ريبوبليكا (Repubblica).
إذا كان الإعلام العربي التنويري يقدّم البابا فرانسوا بوصفه تقدمياً وتنويرياً، فهذا الأخير هو من المتحمّسين للتعزيم، وقد اعترفت الكنيسة في 13 يونيو بـ"الجمعية الدولية للمعزّمين"، المنظمة التي كانت حتى الآن موضع جدل داخل الكنيسة نفسها بسبب ممارساتها.
يُظهِرُ تهاون الدول الغربية مع هذه الممارسة القروسطية استمرار سطوة الكنيسة في الغرب.
فهذا الأخير، لا يمكن أن يتهاون مع ممارسات من النمط نفسه عندما يتعلق الأمر بثقافات دينية أخرى. بالطبع، لا ينبغي أن ينسينا ذلك أن الكنيسة هي اليوم، وبفارق بيّن، أكثر تسامحاً وتصالحاً مع القيم الحديثة من المؤسسات الإسلامية. لكن من شأن هذه المعطيات تذكير المثقفين العرب أن معركة العلمانية في الغرب لم تنته بعد، خصوصاً أولئك الذين صدّقوا بينهم أسطورة اليمين القومي الأوروبي عن أن العلمانية إرث مسيحي.