في حوار قديم مع المخرج المعروف، توفيق صالح، قال إن "السينما المصرية هي نجيب محفوظ"، بدت الجملة مبالغة فيها بشدة، وتحمل الكثير من الاختصار والاختزال والظلم لآخرين، ولكن صالح، دافع عن وجهه نظره بأنَّ الأمر يتعدى كمّ الأفلام التي اقتبست عن روايات لمحفوظ، وصارت من أهم الأعمال في تاريخ الفن في مصر، مثل "بداية ونهاية" أو "اللص والكلاب" أو"الثلاثية".
كذلك، لا يتعلَّقُ التأثير فقط بالسيناريوهات التي كتبها وارتفع بأفلامها للقمّة، مثل: "الاختيار" و"الفتوة" و"درب المهابيل". ولكن، أهميَّة، نجيب محفوظ، الكبرى للسينما المصرية، هي ديمومة أعماله، وتأثر الآخرين بها، لتصنع عالماً مصريَّاً بالكامل. كما أنَّ أدب، نجيب محفوظ، يتَّصِف بالواقعيَّة القصوى، وبالوصف الاجتماعي التفصيلي المباشر، الأمر الذي يسهّل توظيف هذه الأعمال درامياً، بسبب طابعها التوصيفي الواقعي، والذي ينكش مجتمعات الفقر والتهميش المصريّة، والتي تعرّضت للافقار من قبل الحكومات المصريّة المتعاقبة.
هذا العام، يُعرَض مسلسل "أفراح القبة"، المقتَبس عن الرواية التي تحمل نفس الاسم لنجيب محفوظ، وهو أوَّل مُسلسَل مُقتبَس عن رواياته منذ "السيرة العاشورية" قبل 14 عاماً، ليبدو بعد عرض خمس حلقات، أنَّ صاحِب نوبل، لا يزال يُلهِم ويؤثّر في صناع الدراما في مصر، وأنّ عوالمه التي خلقها طوال 60 عاماً من الكتابة، ما زالت قادرة على إثارة الدهشة، والقفز بمقتبسيها إلى مُقدِّمة سباق المسلسلات التلفزيونيّة.
أعدَّ الرواية للاقتباس الكاتب، محمد أمين راضي، أي عمليَّة تحويل النصّ الأدبي إلى نصّ درامي، والذي اختلف بعد كتابته حوالي نصف الحلقات، مع الشركة المنتجة، والمخرج، محمد ياسين. وقرر راضي الانسحاب، بل وطلب حذف اسمه من كل الإعلانات الخاصة بالمسلسل، والتحضيرات السابقة له. وقد أكملت، بعد ذلك، الكاتبة، نشوى زايد، رحلة تحويل الرواية القصيرة التي تدور في أقل من مائتي صفحة، إلى مسلسل درامي في 30 حلقة. وهذا التحويل والاختصار هو التحدّي الأهمّ، والذي سيُظْهِر كفاءة المقتبسين. فإلى أيّ مدى يمكن أن تنقل أحداث وشخصيات وتفاصيل تتوضع في نحو 15 ساعة درامية، تفاصيل نصّ بهذا الحجم؟.
الرواية تدور حول قصة الكاتب المسرحي، والذي يؤلف مسرحية، يكون أبطالها هم الشخصيات الحقيقية في المسرح من حوله، وحكايتها هي قصة حياتهم، ويصبح عليهم أن يشاهدوا أنفسهم ليلة بعد أخرى، حتى إن الممثل، طارق رمضان، (يقوم إياد نصار بدوره في المسلسل) يكون عليه أن يقوم كل ليلة بدور طارق رمضان! ويعيد تمثيل الأحداث التي عاشها هو نفسها. قبل أن يبدأ محفوظ في لعبة سردية متطوره جداً في زمن كتابته للرواية، وهو أن يعيد سرد الحدث الواحد من وجهات نظر مُتعدّدة، في ما يُعرَف بـ "نسبية الحقيقة".
وإعادة السرد من وجهات نظر متعددة، هو الخط الأساسي الذي يلتقطه المسلسل، كما ظهر من حلقاته الخمس الأولى. ففي أول ثلاث حلقات، جرت الأحداث بإيقاع سريع ومشدود جداً، متماشية مع فكرة الرواية مع المزيد من الغموض وتعقيد الشخصيات والتاريخ المضطرب الذي يعرض أمامنا، تحديداً في علاقة "تحية عبده" بالرجل الممثل طارق رمضان، والشاب الكاتب عباس يونس. ثم وفي الحلقة الرابعة والخامسة، قل الإيقاع، وأصبح أبطأ كثيراً، وظهر فيه اعتماد، أمين راضي، على لعبة سرد الحدث مرة أخرى بتفاصيل مختلفة، اعتماداً في الأغلب على من يسرد القصة.
الحلقة الرابعة والخامسة كانتا أضعف من الحلقات الأولى الثلاث للمسلسل، إذ إنّها أبطأ وفيها إطالة في بعض اللحظات، وهي آفة أي عمل تلفزيوني رمضاني، سيضطر حتماً لسرد القصة في 30 حلقة. كذلك، فإن اللعبة السردية قد تفقد بهاءها، وتصبح مملة، في حال إعادة تكرارها أكثر من مرة، ولن تسند المسلسل لنهايته، إذا لم يضف كل من أمين راضي، ونشوى زايد، في النصف الثاني من الحلقات لعالم الرواية الأصلية.
ولكن، رغم بعض البطء والضعف النسبي عن المفتتح، إلا أن المسلسل يُعدُّ من أفضل الأعمال التي تُعرَض في رمضان حتى الآن، وأحد الأسباب الأساسية في ذلك، إلى جانب قدرات المخرج، محمد ياسين، والاقتباس الذكي للمؤلف، والأداءات التمثيلية الممتازة من أغلب الطاقم، خصوصاً إياد نصار وصابرين وصبري فواز، هو نجيب محفوظ نفسه، وعوالمه العصية على أن تشيخ.
يمكن النظر إلى كمّ الغنى الذي تحمله كل شخصية من شخصيات العمل، مثل "حليمة" أو "كرم" أو "سرحان الهلالي"، وصلة ذلك بوصفهم الدقيق في الرواية. ويمكن النظر أيضاً إلى كمّ الإلهام الذي تحمله الفكرة، في رؤية الناس لحياتهم تعرض على المسرح، بشكل يومي وكم التوتر الذي يضيفه ذلك.
وأخيراً، إلى بهاء الحكاية والطريقة التي تتغير بها علاقتنا بالشخصيات من السلبي إلى الإيجابي، والعكس، وذلك كلما ازدادت رؤيتنا لجانب من القصة من قبل آخرين، أي أن المشاهد، عمليّاً، لا يستطيع أن يأخذ موقفاً حاسماً من أي شخصية في العمل. كل هذا ينطلق من جماليات أدب نجيب محفوظ، والذي لا يزال حيّاً وملهماً حتى بعد 10 سنوات من وفاة صاحبه.
وعند النظر من جديد إلى جملة، توفيق صالح، الافتتاحية، فهي بالفعل تحمل بعض المبالغة في اختصار سينما بلد في شخص، ولكنها في الوقت ذاته، تحمل الكثير من التقدير الذي يستحقه الرجل، والذي طور فن الرواية العربية، ومنح، ولا يزال، الكثير الكثير لفنونها المرئية، سواء في السينما أو التلفزيون.