بعد النجاح الذي حصدته رواية "أغنية هادئة" ، والاحتفاء بها في فرنسا والعديد من دول العالم، تم اقتباسها لفيلم يحمل ذات العنوان (Chanson douce / بالإنكليزية: The Perfect Nanny)، من إخراج لوسي بورلوتو. الرواية هي للكاتبة ليلى سليماني، من أصول مغربية والحاصلة على "جائزة غونكور" 2016، والمترجمة إلى العربية عن المركز الثقافي العربي. عرض فيلم "أغنية هادئة" في السينما الفرنسية قبل أقل من شهرين.
يرسم العمل صورة جميلة لملامح عائلة فرنسية تنتمي للبرجوازية البوهيمية، إذ تتكون من زواج مختلط يجمع سيدة من أصول مغربية (مريم) وزوجها الفرنسي بول. يبدأ الفيلم بمشاهد توضح الضغط الذي تعيش ضمنه مريم، الأم لطفلين أكبرهما ميلا ذات الخمس سنوات وآدم الذي لم يخطُ بعد. ضمن نظام فرنسي معقد يتعثر فيه إيجاد حضانة للأطفال تحت عمر الست سنوات، تجد مريم نفسها محاصرة بضغط المسؤوليات التي تعيق حلمها بمتابعة عملها كمحامية. بعد بحث الوالدين عن مربية لأطفالهم، يلتقيان بلويز التي تنتمي لطبقة شعبية. من هنا يبدأ الصراع في جدلية تقود إلى النهاية الدموية لأفراد هذه الأسرة.
يبدو القسم الأول من الفيلم مشدوداً ومحكم البناء. في ظل نظام رأسمالي طاحن، يهيج طموح مريم وبول لمزيد من النجاح والكسب، يصبح التركيز على رعاية الطفلين عبئاً. يترك الوالدان طفليهما لرعاية لويز التي يظهر للمشاهد معاناتها من الوحدة والتهميش. يرصد العمل تفاصيل الغياب من خلال الحضور المركز للمربية في فضاء المنزل والحديقة؛ حيث يلعب الأطفال. ويظهر التناقض في شخصيتها، إذ تترفع عن التعاطي مع زميلاتها المربيات من الأقليات الأخرى في أماكن لعب الأطفال. ففي عالم التعساء، يمارس المضطهد ذات العنف على من هم أضعف منه. تبدأ المربية بمد شباكها في المنزل وتتحكم في تفاصيله الصغيرة. كما يقدم لنا لمحة عن غضب لويز المتراكم بسبب تبذير هذه العائلة ذات الدخل الجيد والذي لا تقوى على احتماله.
يتحول الفيلم في الجزء الثاني إلى نسخة من أفلام الرعب ويسقط في فخ التسطيح. فتبدو المربية كشخص عصابي مسيطر، فيما تبدو مريم ضائعة في براءة بلهاء، غافلة عما يحيط بعائلتها من أخطار. يسرع الفيلم في تقديم أحداث الحكاية، حيث تحبك المربية المكائد لدفع الزوجين لإنجاب طفل ثالث والتي تبوء بالفشل. وعند إدراكها لسعي مريم وبول للتخلي، تزداد عصابيتها ما يدفعها إلى الإقدام على فعل غير متوقع.
لا يوضح الفيلم تغافل الزوجين عن اشتراكهما باستغلال لويز وتغاضيهما عن ساعات عملها التي لا تنتهي، فيبدوان كزوجين سعيدين وقعا ضحية مربية مختلة. يعجز العمل عن التعمق في خبايا الصراع المركب الدائر بين الأم والمربية من جهة، وبين جيل فتي ينتمي لأعلى الطبقة الوسطى الجاهل بهموم الطبقات الشعبية من جهة أخرى. كما يخفق في بيان الجوانب التي تسهب الرواية في بحثها. بهذا، يستطيع قارئ الرواية أن يلمس تفوق النص على اقتباسه.
لا ينجح الفيلم برسم العنف الخفي الممارس على لويز من قبل مجتمع بطريركي رأسمالي، تستغل فيه العائلات التي توظف المربيات وقت وجهد وعواطف هذه الفئة المستضعفة. إضافة إلى عجزه عن رسم ملامح العلاقة بين المهاجرين والفرنسيين من أصول بيضاء. الكاتبة ذات الأصول المغربية تتحدى التنميط المجتمعي الذي يضع المهاجرين في أدنى السلم الاجتماعي بتقديم نموذج مريم المرأة العصرية التي تسعى بشكل مستمر لتطوير ذاتها. لا تتضح الرؤية العميقة للمعاناة، التي يلمسها قارئ الرواية، لمن يعيش في أدنى السلم الاجتماعي في فرنسا. شخصية لويز التي أتقنت الكاتبة رسمها، تساعدنا بطريقة استشرافية، على فهم ملامح المطالب الغاضبة للستر الصفراء التي بينت الشرخ الطبقي في النسيج الاجتماعي الفرنسي. الرواية تستقصي عنف النظام الرأسمالي الخفي الذي يعزز عزلة الأفراد من جميع الطبقات ورعب الفقر والعوز للطبقات الأدنى. بينما تظل معالجة الفيلم أحادية البعد تركز على الجوانب البصرية لمعاناة لويز التي تتمثل بكوابيس تحاصرها وتدفعها نحو النهاية السوداء.
على صعيد البنية وبالرغم من طابع الرعب الذي يسعى الإخراج لتحقيقه من خلال لقطات قريبة لانفعالات المربية التي تشي تصرفاتها بتوحشها الخفي، فإن الفيلم يفتقد لعنصر التشويق. على عكس الرواية التي تشدنا بالرغم من بدايتها التي تصف الجريمة المريعة، فإن الفيلم يبقي على الجريمة حتى الخاتمة، لكن هذا التأخير للحدث العنيف لا يسهم بشد المتلقي.
في المقابل، برعت الممثلة الفرنسية كارين فيار بلعب دور لويز. فعلى الرغم من غياب الحامل المجتمعي والنفسي الذي يبرر أفعال لويز في الفيلم؛ فقد استطاعت فيار إظهار تمكنها من تقديم دور عنيف ومخيف تقع ضحيته الطفولة. عوضت الممثلة عن تسطيح شخصيتها نتيجة النص المتواضع بأداء قوي. كما ساهم حضور الطفلين المركز بخلق حميمية خفية تؤدي لتعلق المشاهد بالشاشة الكبيرة.
جمال الصورة، الذي ينقل وداعة المنزل ومن ثمة جمال باريس المدينة الصاخبة، يغمر المشاهد بمتعة المتابعة. وتساهم الموسيقى بخلق النبوءة التي يخشى المشاهد تخيلها أثناء الفيلم.
تظل رواية "أغنية هادئة" متفوقة على الفيلم لقدرتها على التعمق في نسيج المجتمع الفرنسي الذي بات يعاني من السياسات النيوليبرالية التي تسعى الحكومة لتطبيقها. رغم أن الرواية لا تناقش الوضع السياسي الذي تعاني منه البلاد كالاضطراب الذي تشهده المدن الفرنسية، من إضراب المواصلات إلى احتجاجات الستر الصفراء، إلا أن تفاصيلها الناعمة تشي بهذا التعقيد الذي يقود إلى هذه الفوضى. أسئلة كثيرة تدور برأس القارئ حول معنى الأمومة وحول الرغبات الإنسانية التي تصطدم بجدار الواقع تدل على ذكاء الكاتبة الشابة ليلى سليماني وعلى جمال نصها الذي يستمر بتحريك خيال القارئ.