أغنيات من الصندوق المعتم

15 اغسطس 2015
من سلسلة "رماد"، وفاء بلال، العراق
+ الخط -

غاب عن الصحافة الثقافية رصد "البذاءة" التي تسرّبت إلى الأغنية الشعبية العراقية، إبّان الحصار المفروض عليه في التسعينيات، ومزجت بين هموم فئات مهمّشة وبين رغباتها الدفينة في انتهاك المحرّمات، احتجاجاً منها على الواقع بطريقتها. فجأة تنبّه الكتّاب والمثقفّون إلى "انفلاش" هذه الأغنية -عقب احتلال بغداد عام 2003- وانتشارها في عشرات الفضائيات التي ظهرت آنذاك.

الرقابة في دولة مركزية مثل العراق حجبت تلك الأغاني، وأبقتها محصورة في عالم السهر، في سعي إلى إخفاء تعبيرات "قاع" المجتمع عن الإحباطات الكبرى التي مسّته. ولم يلحظ أحد أن ذلك مؤشّر مؤكِّد على كارثة ستحلّ عما قريب، بل إن التعامل معها اليوم في تقارير ومقالات صحافية لا يزال من باب استهجانها ووسمها بـ"النشاز".

يتجاهل صحافيون ومثقفون سلوكيات اجتماعية مهمة للدرس، ومنها طقوس العزاء والأفراح وختان الذكور، أو عادات البيع والشراء في الأسواق الشعبية، أو مزاج أبناء الليل، والتي تكشف عن كثير مما نحاول إخفاءه في حياتنا "الرسمية".

معظم الأغاني العراقية التي ظهرت في تلك المرحلة، تركّزت على غربة أناس عاديين يظنون أنفسهم "أبطالاً" مستهدفين على نحو معين؛ فهم معذّبون في الحب ويلازمهم الحظ السيّئ بالفقر وانعدام الوفاء، وعليه يصبح مطلوباً ومفهوماً الذهاب نحو الفجاجة في وصف العلاقة مع المرأة وجسدها، أو القدرة على كشف ألاعيب الحبيب والزمن، وتضمينها شتائم تنال من "هيبة" المجتمع وادّعائه الأخلاق، ولا يسلم الغناء كذلك من الذم بخضوعه للمنظومة "المزيفة" نفسها.

إشارات عديدة يمكن التقاطها لخلطة الحزن والفحش لدى مغنّين كثر، لا تُحفظ أسماؤهم؛ مثل حسام الرسام وبليغ الساهر وغيرهما، تطلّب تقديمها رقصاً رديئاً لمجموعة فتيات حول المغني أو المغنية والاعتماد في ألحانها الركيكة على إيقاعات تبيّن أنها تجذب الجمهور، لدرجة استعارتها من نجوم غناء يصنّفون في الصف الأول، ووضعها ألحاناً لأغانيهم، وهي تحتاج إلى دراسات "سوسيوثقافية" أعمق، حتى لا تقع ضحية لكليشيهات جاهزة تعوّد على إطلاقها أهل السياسة وأتباعهم في الإعلام لتبرير انحيازاتهم إلى السلطة أو خصومتهم لها.

خرجت هذه الأغاني من "الصندوق المعتم" إلى الواجهة بفعل الهزيمة وجراحها، والتي ساهمت في تبنّيها من قبل منتجين طمعاً بمكاسب سريعة نالوها، وقنوات فضائية استثمرت كل المخبوء سنيناً من نزعات طائفية وجهوية وكبت جنسي، فنهضت على يد معلنين سوّقوا منتجاتهم إلى جوار هذه البضاعة، وعلى رسائل جمهور خارج للتوّ من حرب كان وقودها، ولم يكن طرفاً فيها.

تشابُه البيئة والأحزان، ومئات آلاف اللاجئين نقلوا هذه "الوصفة" من بغداد إلى دمشق في مطلع الألفية الثالثة، وجاءت الإضافة السورية بأصوات استعارت لهجة الجزيرة الفراتية، المشتركة بين البلدين الجارين، ولاقت الأغاني الجديدة رواجاً وإقبالاً لدى الشباب والطبقات المسحوقة، وانفتحت شهية شركات الإنتاج بتمازج نكهتين؛ عراقية وسورية.

شكّلت سارية السوّاس نموذجاً جرى محاكاته من كثيرين، إذ تنوع أداؤها بين أغانٍ شعبية معروفة مثل "وا عيني"، و"يا أسمر اللون"، وأخرى تبدو مقلّدة في كلماتها ونغماتها لتراث بلاد الشام، وثالثة ينتجها "الكيف" والتجلي في الحفلات، في حالةٍ تشكل ذروة كل ما سبقها في هتك المسكوت عنه جنسياً على وجه الخصوص.

لم تكن مصر بعيدة عن الهلال الخصيب، وإن اختلف الحال قليلاً، فقد شهدت أغنيتها الشعبية أوّل انحداراتها، مبكراً، مع ظهور أحمد عدوية، ورغم كل محاولات الأبنودي وصلاح جاهين وسيد مكاوي وبليغ حمدي في الكتابة والتلحين، حينها، للنجم الصاعد، طامحين في الاستفادة من شعبيّته، إلاّ أنهم عبّروا عن خيبة أملهم لأن صاحب "زحمة يا دنيا" جرّهم إلى مساحته، ولم يستطيعوا أن يطوّروا تجربته والارتقاء بذائقة متابعيه.

بقي عدوية "متحفظاً"، وربما إيجابياً في نظرته إلى الحياة، قياساً بما حدث منذ عقدين من الزمن، مع ظهور أغنية أكثر ركاكة وسوقية، وقد يلحظ كثيرون التقاءها بمسحة الحزن مع نظيرتها الشامية والعراقية، مع حضور أوسع، بالنظر إلى اعتمادها في الأعراس الشعبية، وتقديمها في أماكن اللهو التي لا تُقارن بانتشارها وتعدّدها، بما تحتضنه دمشق وبغداد.

الفرح الغامر عند سعد الصغير وبوسي سمير لا يكفي لتثبيت شعبيتهما، فكان عليهما أن يغوصا في أحزان الجمهور الذي لا يعمّد نجومه من دونها، غير أن ثرثرة النيل تختلف في أوجاعها عن ثرثرات دجلة والفرات، وإن تقمّص "الموجوعون" أغاني متشابهة؛ فالأولى تعكس شظف العيش وتفاصيل معاناتهم ومشاعر الكبت معاً، بينما تذهب الأخرى إلى كبت منفصل عن الواقع ومستجدّاته.

لا يلزمك السفر إلى العواصم الثلاث، ففي مدن عربية كثيرة يمكنك سماع كوكتيل هذه الأغاني في نادٍ ليلي واحد. وهنا يستحق السؤال إن كانت هناك أغان حزينة فاحشة تُغنّى في "قاع" هذه المدن، وتنتظر كارثة محدقة لتنفجر مرة واحدة في وجه أدعياء العفّة ومروّجي اليقين المبتذل.

دلالات
المساهمون