أطفال سورية.. وقودٌ للحرب والجوع والحشيش

21 فبراير 2017
(في أحياء الرقّة، تصوير: دليل سليمان/ فرانس برس)
+ الخط -
المآسي التي مرّت بها الطفولة السورية وما زالت منذ بداية الثورة عام 2011، اتّخذت أبعادًا وأشكالًا مختلفة، فليس القتل والاعتقال والتشريد والحرمان من التعليم وانعدام الأمن، إلا من تلك الأشكال، ولكن أخطرها. كان تداول تلك المآسي وإنتاجها بشكل مرئي احترافي متاحا للجميع، كأن تلتقط صورة طفل في الثالثة من عمره يرمي أحدهم برصاصة في رأسه لخيانته، وتصنع فيلمًا بطله يبلغ من العمر 15 عامًا وهو يعزّي والده وينصحه بأن لا يحزن فـ "الملقى في الجنّة"، بعد تنفيذ مهمّة قيادة سيارة مفخّخة إلى مبنى "الأعداء"، وفي إنتاج آخر يظهر الطفل وكله آذان صاغية لوصايا والده في إكمال مشوار القتل وتكفير الآخرين.

هذه المشاهد عرضها تنظيم "داعش" في إصدارات مرئية أنتجها مؤخّرًا، الأوّل حمل عنوان "أحياني بدمه" وهو آخر إصدار، والثاني "سبقني ولدي" والثالث "حدّثني أبي"، وغيرها الكثير من الأفلام التي ترصد معاناة الأطفال وحياتهم التعيسة، وإعدام أي أمل لهم بزجّهم في المعارك واستخدامهم لأغراض عسكرية خطرة أو استغلالهم جنسيًا من قبل بعض القادة.

بعيدا عن "داعش" وتجنيده للأطفال لأغراض عسكرية أو جنسية، يظهر الطفل السوري في إصدار جديد، ولكن هذه المرّة، في شكل فيديو انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإعلامية بعنوان "شيلني يا بابا"، مشهد أدمى القلوب وقطع الأنفاس، لا يقلّ خطورة عن سابقه، إذ تعرّض الطفل السوري عبد الباسط منذ يومين لفقدان قدميه بسبب القصف الجوي الذي تعرّض له منزله في ريف إدلب بالشمال السوري، يقول ملتقطًا أنفاسه بعد القصف: "شيلني يا بابا" الجملة التي استغاث بها طلبا للمساعدة بعد أن بدأ يزحف معتمدًا على بقايا جسده. وبعد التعاطف، غرق الفيسبوك بوسم "شيلني يا بابا" تعبيرًا عن حالة الحزن والاستياء لما حلّ بالطفل، وكأن الحادثة أصبحت بمثابة إصدار، ليس من إنتاج "داعش"، بل كانت الطائرات ووسائل التواصل الاجتماعي هي من صنعته، يكفي أن تكتب "شيلني يا بابا" لتظهر حكاية الطفل مباشرة، أو ترى أحدهم ينشر حالته مكتفيًا بالوسم ذاته.

إصدار ثالث مني به الطفل السوري، خارج سورية، لا "داعش" ولا الطائرات من صنعته، ربّما ساهمت فيه وهيأت له، ولكن الحشيشة هي التي أثارته، ومزارع بعلبك التي يسيطر عليها حزب الله كانت استوديو التصوير، هذا ما جرى عرضه في وثائقي "أطفال الحشيشة في لبنان" الذي بثّته قناة "الجزيرة"، ويبين الشريط كيف يتمّ تجنيد الأطفال في لبنان، ولكن ليس لأغراض عسكرية، بل بغرض العمل في مزارع الحشيش التي تنتشر في بعلبك، وتقع خارج نطاق القانون، وبأجور زهيدة، استغلالًا لأطفال لم يبلغوا سن السادسة والسابعة، والكل هناك يُدعى عبودة، فلا أسماء ولا هوية ولا تعليم ولا أمان، وعند سؤال أحد العبودات ما هو الحشيش وماذا يفعلون به، يجيب: "الحشيش.. حشيش بيحطوه بالسيكارة وبعدها بتصير حشاش".

لقد مزّقت الحرب والنزاعات في سورية الطفولة، وأحالتها عذابًا تحت وطأة التجنيد، وألمًا يزيده هدير الطائرات وقذائفها، وأنينًا في بساتين الحشيش، بالمقابل كان هناك من يسعى لتصوير هذا التمزّق والتشظّي، سواء بهدف عرضه والإخبار عنه وعن معاناة الأطفال، أو من يعرضه تصديرًا لبطولته وتهديدًا لجيل آخر من "أشبال الخلافة". لكن الحالات كلّها سواء أمام التكنولوجيا وعوالمها الافتراضية، وأمام الصمت وعدم التحرّك لإنقاذ الأطفال بعد عرض إصدار يتناول طفلًا يقضي جوعًا وبردًا ومرضًا، أو طفلًا يُقتل أو يعمل في سنوات عمره الأولى بعيدًا عن التعليم وعن كل هذه التكنولوجيا، وتصبح هذه الآلام بعدها إصدارات ترجع لها من أجل المشاهدة بالنسبة للبشر، وبيانات بالنسبة لعالم التكنولوجيا تحتاج لها حكومة ما أو مخابراتها.

الانتهاكات التي تعرّض لها الأطفال في سورية، تجاوزت كل التصوّرات، وكل الممكنات التي تتوقّع أن يصل إليها حال الأطفال السوريين، بدءًا من شرارة الثورة الأطفال في درعا وما تعرّضوا له من اعتقال وتعذيب وتنكيل، مرورًا بيوميات دامية من تشريد وحصار والقضاء بردًا وجوعًا وغرقًا إلى جانب الحرمان من التعليم، وليس انتهاءً بتجنيد من هم دون الـ 16 عامًا وإشراكهم في النزاعات المسلّحة واستخدامهم لأغراض عسكرية، تلك العوامل والظروف قتلت آمال الأطفال وبراءتهم، فتحوّل الطفل السوري رجلًا معيلًا لأسرته لفقدان الأب أو الأخ الأكبر، وشكّل غياب القانون والفوضى مدخلًا لعصابات الإجرام في اقتياد الأطفال إلى مصير مجهول، واستغلالهم لأغراضهم الجنسية، وتشغيلهم في أعمال شاقة، فكانوا شرارة ثورة الكرامة في البداية، وصاروا وقودًا للنار التي أحرقتهم وأحرقت كل شيء.



المساهمون