أصل الحكاية الإريترية

26 يوليو 2017
(من أسمرا، تصوير: هرميس)
+ الخط -

ما أنوي الكتابة حوله ليس مجرّد شهادة، حول واقعة تاريخية عايشتها فحسب، بل هو محاولة لإعادة اكتشاف القيم المؤسسة للمجتمع الإريتري. أو محاولة لإحياء "قيم" كادت أن تندثر بفعل عوامل التعرية الثقافية، والتجريد ذي الطابع الهوياتي الذي تفرضه المنظومة الحاكمة في أسمرا، وأذرعها الإعلامية، ولا سيما على منصات التواصل الاجتماعي، ووسائط الاتصال الحديثة، وما نتج عنها من سيادة خطابات شاذة وطارئة.

في ظني أن إعادة تلمس القيم وبعثها، قد يساهم في مرحلة ما، في عملية دحض الخطابات المستحدثة، النازعة نحو الغلو والاستقطابات البائسة، التي تحاول عبثاً اختزال المجتمع في رؤى وتصوّرات قاصرة ومختلّة.

لم يكن ثمة في الواقعة شيء يدعو للعجب حينها، أو هكذا بدا لي الأمر، لكن لا مناص من الاعتراف الآن أنها تبدو أسطورية في حال حدثت أو سُردت اليوم، فما الذي جعل أكثر أمورنا اعتياديةً تتحول إلى هذه الدرجة من اللَّا-اعتيادية، المُحيلة إلى خيال الأسطرة.. سؤال ربّما يحتاج إلى أبحاث اجتماعية ونفسية بجانب العوامل والقراءات السياسية للحالة القائمة.

مجرد واقعة ولكن

ذات ليلة باردة، تدهورت صحة جدّي نور الدين (عم الوالد) في بيتنا الأسمراوي، إثر إجرائه لعملية "البورستاتا".. هكذا افترست مضاعفات العملية جسده السبعيني الهرم، وبدا أنه يُحتضر فجأة دون أن يسعفه القدر ليمسح جسده بالزيت المقدس، وهو الذي عاش كاثوليكياً ملتزماً!

هرع والدي نحوه، مدّ رجليه الآخذتين في التجمّد، ثم ضم يديه على الصليب الراقد فوق صدره، أغمض عينيه، وتناول المصحف وجلس بجواره يقرأ سورة يس على روحه، التي كادت أن تفارق الجسد المُنهَك.

لم تكن تلك لحظة نهاية درامية من خيال الكتّاب الطوباويين، بقدر ما كانت بداية حقيقية لحياة سأعيشها لاحقاً قابضاً على اللحظة، أن تكون ابناً لهذه القيم، يعني بشكل ما، أن تقضي العمر قابضاً على جمر المسافة بين اللحظة وما استحدث من القيم.. أن تقف أمام عواصف تهدر بحممها، وأصوات تعوي كذئاب جائعة، لتنقضّ على ما تبقى من مساحات التعاطي مع المُختلف ديناً واعتقاداً..

مُثلٌ بقيت راسخة في مجتمع ظل يعدّ الدين شأناً شديد الخصوصية، ليس نزولاً عند مقررات المادة الـ 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا تماشياً مع القوانين الوضعية التي استحدثت بعد الحروب العالمية التي أزهقت الأرواح، بل امتثالاً لقواعد مجتمع يعدّ العُرفَ ناموساً مقدسّاً يكفل العيش المشترك، في إطار من الاحترام لخصوصية كل فرد فيه، ولا سيما في ما يتعلق بمعتقده الديني الذي يبقى خياراً شخصياً.

صراع داخلي خفي

لم تكن تلك الواقعة وحدها التي صاغت تفكيري في ذلك الوقت المبكر من العمر، فالأسئلة ظلّت تراود ذهني كلّما أطل على بيتنا ضيف جديد من مناطق "السنحيت" (إقليم في قلب إريتريا يتوزّع ساكنوه بين الإسلام والمسيحية). أناسٌ مختلفو السحنات يزوروننا بين فترة وأخرى، محمّلين بالهدايا وما جادت به مزارعهم من ثمرات، وقبل ذلك وبعده، محمّلين بالحب وروابط القربى وأثقال الحنين، فذاك عمٌ وذاك جد، وذاك قريب.

أقرباء بنسب متفاوتة، أو شبه متطابقة جينياً، غرباء اعتقاداً وديناً، دون أن يشرع ذلك مساحة للاختلاف أو لمجرّد نقاش عرضي، حول أمر يظلّ شخصياً حسب ما درجت عليه أعراف الأسرة.

ثمة أصدقاء وجيران ظلوا يطوون أسئلتهم وحيناً يطلقونها مدوية، "كيف يصبح ذلك العم أو الجد مسيحياً؟!"؛ أسئلة لم أكن أملك لها إجابة شافية، لكنها صدقاً كانت جزءاً من صراع داخلي خفي، يؤرّقني حيناً فأنوي تقمّص دور المرشد أو المخلّص، لكن لسببٍ ما، لم أُقدم على تلك الخطوة في أية لحظة.

ليلة لاستدراك الدرس

كأن القدر كان عطوفاً في تلك الليلة، حيث لم يُفتقد البدر، ولم تفقد الشمس طريقها نحو الفجر، كان صباحاً للتعافي، ولعودة الروح.. حيث بدا الجدّ فرحاً وهو يداعب الصليب العالق فوق صدره، الفرح كان معادلاً للحياة، وكذلك للكثير من الدروس التي نهلتها في تلك اللحظة الفارقة.

(دعني أعود إلى "بامبي" لا أريد أن أموت هنا بعيداً عن داري)، هكذا قال نور الدين، وهو يحلم بالزيت المقدس وابتهالات القساوسة، والنعش المحمول على أكتاف فلذات كبده المتفرقين بين ديانتين، حيث لم يلوّث داره بعد بالمُثل التي سوف تستحدث لاحقاً في المجتمع الإريتري، للدرجة التي تصبح فيها مجرّد صورة توثق لمصافحة بين "شيخ وقسيس" إلى "قضية رأي عام" تسيل الكثير من الحبر على مواقع "الانفصام الإلكتروني"، وهذا هو التعريف الصحيح لتلك المواقع التي تحوّلت إلى ما يشبه قلاعاً محصنة لرعاع يقودون المجتمع نحو هاوية سحيقة، لا تقل ضرراً عن حيل النظام وسدنته الأوفياء.


* صحافي إريتري مقيم في القاهرة

دلالات
المساهمون