أشياء صغيرة.. معانٍ خطيرة

29 سبتمبر 2015

سياح أمام كنيسة المهد في بيت لحم (7 يناير/2015/Getty)

+ الخط -
كنّا، في أغسطس/آب 2009، في بيت لحم، لمناسبة انعقاد المؤتمر السادس لحركة فتح. هذه المرّة، اضطررنا مراراً للاستراحة أو لتناول الطعام في بعض المحال المُطلة على ساحة المهد، وحيثما توجد، أيضاً، محال للتذكارات والمطويات التي يريدها السائحون والكتب باللغات الأجنبية التي تُعرّف بالمدينة والكنيسة. كانت صدمتي قويةً، عندما وجدت أن جميع الكُتب التي تباع لهؤلاء أنتجتها شركات سياحية إسرائيلية، تقدّم المدينة للزائرين، باعتبارها إسرائيلية، علماً أن اتفاقية أوسلو نفسها، على رداءتها، تعاطت معها باعتبارها فلسطينية، وهي في خرائط ما يُسمى المرحلة الانتقالية، مُصنّفة (أ)، وتمثل مركز محافظةٍ لها محافظ، وفيها أجهزة شرطية وأمنية مزودة بالسلاح و.. بالهراوات. 

كان مرّ 16 عاماً على بدء تطبيقات "أوسلو"، وعلى عمل حكومات أرغت وأزبدت في الحديث عن مشروع وطني. ومن فوري، كتبت في صحيفة السلطة، منوّهاً إلى أن تكلفة إنتاج كتاب إيضاحي يقدم بيت لحم للزائرين لا تزيد عن مهمة سفر واحدة لمسؤول تحت عنوان "المهمة"، حتى عندما يوزع مجاناً، وكل ما في الأمر توفير مصور، يلتقط الصور لكل شيء داخل كنيسة المهد ومن حولها، وللمدينة ومعالمها، ويتولى وطنيّون، من المدينة ومن الكنيسة نفسها، وضع ملخصات لتاريخها، ويُعرّف بكل صورة، بلغة تؤكد على فلسطينية بيت لحم وتاريخها وأمثولة التعايش الإسلامي المسيحي فيها. وفي السياق، ناشدنا وزارات ومؤسسات ذات صلة، من أوقاف وسياحة وإعلام ومحافظة وبلدية ومنظمات مجتمع مدني ممولة بسخاء، أن تتسابق في إصدار كتبٍ تُقدم تعريفاً حقيقياً للمدينة، على أن تتولى شرطة السياحة والبلدية منع المحال، المطلة على ساحة كنيسة المهد، من بيع الكتب المفترية على بيت لحم.
وللأسف، كانت استجابة الحكومة كاريكاتورية، وفي وجهة أخرى، إذ سرعان ما بدأ الإعلان عن مناسبة قص رئيس الحكومة شريط افتتاح أضخم سدر كنافة، وأعرض منسف، وأكبر رغيف مسخن، ثم، في شهر رمضان، أضخم حبة قطائف، في إشارة غبية الى أن الرهط المتنفذ يُعلي من شأن التراث الفلسطيني، كأنما هذا الرهط لا يعرف أن التنوع الثقافي داخل الدولة الواحدة، إن كان على صعيد العادات والتقاليد والشأن المطبخي، لا يبدّل حقيقة أن هناك دولة تجمع التنوعات، وأن الواجب الأوجب، أن نؤكد على أن إسرائيل، على بطلان أساس قيامها، شيء وفلسطين شيء آخر، وأن هذه المدينة أو تلك، في الضفة، فلسطينية في السياسة وفي الجغرافيا وفي السياق التاريخي. ولا حاجة هنا للتأويل، والقول إن هناك مؤامرة، لتحويل الوجود الفلسطيني الكثيف، في الضفة، إلى حالة تراثية وثقافية، لا شأن لها بمسألة الاستقلال، وإنما هي صاحبة حق في التأكيد على الملكية التراثية لسدر الكنافة وصحن الحمص ورغيف المسخن الموشح بخلطة البصل والسمّاق، لا سيما وأن العدو يحاول سرقة تراثنا وفنوننا.

كان لا بد من التذكير، المرة تلو الأخرى، بضرورة إزالة وسخ الكتب الإسرائيلية من محال التذكارات في بيت لحم، وأن يُصار إلى إعداد وإصدار كتب مصوّرة، يطالعها الحجاج المسيحيون، وتكون إسهاماً في تعريف شعوب العالم بالمشروع الوطني الفلسطيني، أو على الأقل، تأصيل هوية الأرض بمشاعرها المقدسة. والغريب أن كل الأطراف المعنية بالمسألة، وهذه في جوهرها بسيطة وغير معقدة، كأنها توافقت على تجاهلها، ما يفتح المجال لتأويلٍ يتعلق بوظيفة السلطة الفلسطينية نفسها، والافتراض أنها قائمة على وضعية محلية، لا تراكم شيئاً ذا علاقة بأمنية الاستقلال والحرية، ولا تستفيد من حيوية المجتمع الفلسطيني، لفرض وقائع على الأرض. فلم تهتم السلطة بالتنمية الزراعية بقوة دفق هذا المجتمع وخبراته، وكان في وسعها أن تدفع إلى هذه التنمية في المناطق الريفية المصنفة (ج)، علماً أن أكلاف مثل هذه التنمية لن تستقطع سوى جزء يسير من مقدارات مالية أتيحت، وأهدرت سواء في ترف الإنفاق الحكومي أو لتضخيم الجهاز الأمني.
شيء صغير آخر، ذو معان خطيرة، يلمحه المسافر من رام الله إلى جنين أو نابلس. فعلى طول الطريق، يرى العابر لافتات إيضاحية إسرائيلية، باللغات العبرية والإنجليزية والعربية، تدل على اتجاهات مدن ومستوطنات أراضي 48 وتؤشر على علائم ونويات استيطانية، ولو بحجم منزلين ليهود، يتطفلان على الأراضي الفلسطينية، وتلك لافتات زرقاء كبيرة، وأخرى خضراء تفصيلية، كلها مطبوعة بأناقة. في المقابل، لا تجد إطلاقاً، لافتة ولو عشوائية، تعرّف المسافر للمرة الأولى باسم القرية أو البلدة الفلسطينية، بل إن مدينةً، أو بلدة فاتنة ذات عمائر بديعة، مثل ترمسعيا، لا تجد، حتى على مدخلها، لافتة تليق بها، أو لا تليق، يمكن أن تدل العابر إلى أنه وصل إلى مدخل بلدة بهذا الاسم. نحن هنا بصدد مشهد، تتبدّى فيه علائم الوجود الأزلي للشعب الفلسطيني وتجمعاته الحضرية، وكأنها أخفت أسماءها، أو كأن أسماء بلدات وقرى وطننا، كانت مكتوبة بالطباشير ومُحيت، بينما ألوان اللافتات الكبرى، الزرقاء والخضراء، تنم عن رسوخ.
بعد 22 عاماً على قيام السلطة، لم يتغيّر شيء على صعيد مثل هذه المسائل الصغيرة. فكيف يقرأ المراقب بحس تاريخي هذا الامتناع عن مجرّد التعريف بالذات؟ فقد بقيت بيت لحم إسرائيلية في الكتيّبات التي تبيعها المحال للسائحين، وظلت قُرانا ومدننا بلا لافتات، أما السلطة، والمنظمات غير الحكومية، والفصائل والقوى السياسية، فما زالت تتحسس أجسادها، لتطمئن إلى صحة أبدانها، وإلى تمام الموازنات.