أي جلسةٍ لأصدقاء أو معارف في المقاهي المنتشرة على أرصفة بيروت، لا بد أن تتسرّب إليها رائحة النفايات التي تتراكم جنباً إلى جنب في شوارع العاصمة اللبنانية. ولن تخلو أحاديث أولئك الذين فضّلوا الجلوس في الداخل، من أزمة النفايات هذه. بالنسبة للجميع، المشهد مرعب، وإن كانَ يختلف بين منطقة وأُخرى. وحينَ يبدأ الكلام عن أمر مخيف، لا يعود مستغرباً المبالغة في تكهّن ما قد يحدث. كأن تخرج ديناصورات من بين هذه الأكوام. في هذه الفكرة تضخيم، إلا أن الجرذان والفئران ستخرج إلى سطح الأرض حتماً، حالها حال الجراد الذي أكل الأخضر واليابس خلال الحرب العالمية الأولى.
يتأفّف المغتربون الذين جاؤوا من بلدان مختلفة لقضاء بعض الوقت في بلدهم من هذا الحال. في الواقع، يتأفّف الجميع، المقيمون والمغتربون. كان الفريق الثاني يأملُ بعض التأجيل، أقلّه حتى تنتهي إجازته. ومن عايش الحرب الأهلية (1975 – 1990)، يتذكر كيف كانت أكياس القمامة تُرمى من على الشرفات. في ذلك الوقت، كان عادياً أن ترى الأكياس تتطاير في الهواء قبلَ أن تسقط أرضاً. وإن كنت على الشرفة، لا داعي لرمي النفايات في سلة القمامة. يكفي أن تنظر إلى الأسفل، وترميها.
الحالُ شبيه اليوم مع فارق أن النفايات تتراكم. ولأن رائحتها وبقاءها بين الأحياء أصعب من فعل الحرق نفسه، اختار بعض المواطنين التخلّص منها على طريقتهم، وإن كان فيها ضرر بيئي كبير على المدى البعيد.
لكل منطقة من مناطق العاصمة بيروت نفاياتها. صارَ الأهالي يتبارزون في ما بينهم، لـ "الفوز" بـ "كميّة" أكبر منها. ليسَ هذا رغبةً بمزيد من المعاناة، بل تأكيداً عليها. يحب اللبنانيون لعب دور الضحية، وهذه فرصتهم. لا طاقة أو نيّة لهم للضغط على المسؤولين. كالعادة، يكتفي البعض بقطع الطرقات وإشعال الإطارات. وفي أحسن الأحوال، يرتدي آخرون الكمّامات الواقية. يقول البعض إنها "مؤامرة" على لبنان، فيما يخجل آخرون من نظرات الأجانب.
في مشهدٍ غريبٍ وغير منطقي، تتكوّم النفايات على مقربةٍ من المستشفيات الرئيسية في بيروت. قد يلتبس الأمر عليك. هل يأتي المرضى بسببها؟ وإن لم يكن كذلك، هل يعودون إليها بمجرّد خروجهم منها؟ الأمر غير محسوم، وخصوصاً إذا طالت الأزمة.
وبالإضافة إلى المستشفيات، تنتشر حاويات القمامة، التي تحوّلت إلى مجموعةٍ من الهضاب أمام المطاعم، ما دفع البعض إلى تغطيتها بالأقمشة والنايلون للتخفيف من بشاعة المنظر والرائحة المنبعثة، من دون أن يخفّف ذلك من ضررها البيئي. يفضّل بعض المواطنين عدم شراء الطعام من هذه المطاعم. لا يريدون تعريض أنفسهم لمزيدٍ من مسبّبات الموت. لم تنته قضيّة الفساد في الغذاء بعد. أجسادهم مليئة ببعض منها، ولا يريدون إضافات سامة. عائلاتٌ أخرى اختارت إبقاء أولادها في القرى أو في مناطق الاصطياف الأقل تأثراً بهذه الأزمة. ومن ليس مضطراً إلى الخروج، والمرور بمحاذاة المكبّات الكثيرة، لن يفعل.
القمامة موجودة في كل مكان، وإن كانت تختلف بين منطقة وأخرى. في شرق العاصمة، حرصَ أولئك الذين أوكلت إليهم مهمة تجميع النفايات ووضعها في المستوعبات، على ترتيبها. ونادراً ما ترى نفايات خارج الأكياس. يختلف الأمر قليلاً في الجزء الغربي منها. هناك، عمد كثير من المواطنين إلى إحراقها. وحين تمرّ بمحاذاتها، ترى نفايات وأشلاء نفايات، حتى تكاد تحزن عليها. خلال ساعات النهار الأقل ازدحاماً، قد تشعر وكأنك نجوت للتوّ من حرب. إلاّ أنك لن تنجو على الأرجح. ربما يخبئ لك المستقبل بعض المفاجآت والأمراض. والأمر، بالنسبة للبعض، يعكس ثقافة المواطنين.
في وسط العاصمة، وعلى مقربة من منازل بعض السياسيين، تُزال النفايات، من دون معرفة مكانها الجديد. اختلفت نكهة المدينة اليوم. كل شيء فيها باتَ مُطعّماً بصورة ورائحة النفايات. وزير الصحة وائل أبو فاعور دعا إلى عدم إحراقها والانتظار. لن يتفاجأ اللبنانيون إذا ما قرر المسؤولون، في الجلسة الحكومية التي تعقد اليوم، إرجاء الحل. سيعيشون وسطَ جبال جديدة، وربما مخلوقات ستنمو من رحمها. يرتدون الكمّامات ويلتقطون الصور للذكرى والتاريخ.
المشهدُ سريالي. في وقت قريب، ربما تصيرُ المدينة أشبه بمدينة من ملح. هو كناية عن المادة البيضاء التي ترشّها البلدية على النفايات للقضاء على الحشرات والقوارض. لن تخرج الديناصورات من هذه الأكوام. لكننا نعيش في واقعٍ انقرض تماماً من الأجزاء الأخرى من العالم.
اقرأ أيضاً: لبنان: مطالبات برفع السرية المصرفية في ملف النفايات