أسرار العائلة

02 أكتوبر 2015
(غسان سباعي / سوريا)
+ الخط -

الكتابة عن الذات أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، فهي أقرب إلى المغامرة التي تنطوي على مخاطر عديدة. لا تكمن المشكلة الأساسية في الرقيب الخارجي الذي يحرس على سلامة الثالوث المحرّم، بل في جبروت الرقيب الداخلي والعائلي.

أعترف أنني من المدمنين على قراءة السير الذاتية الحقيقية والسير الذاتية المقنّعة التي يختفي أصحابها وراء أشكال إبداعية كالرواية مثلاً. ما يثير حماستي، كقارئ وكاتب معاً، هو تعقّب خطوات الكاتب لمعرفة مقدار شجاعته وصراحته وصدقه مع القرّاء.

هكذا، أعدت مؤخّراً قراءة رواية "الحب، الفانتازيا" (1958) لآسيا جبّار (1936 - 2015). شعرت بتردّدها الشديد وخوفها الكبير من البوح بأسرار العائلة، فقد افتتحت كتابها باستعمال ضمير الغائب في وصف طفلة تذهب إلى المدرسة لأوّل مرة برفقة والدها، ثم انتقلت كليّاً إلى ضمير المتكلّم وتحدّثت عن نفسها.

تعاملت الكاتبة الجزائرية مع حياتها الشخصية والعائلية بحذر شديد، كأن المادة السردية المؤلَّفة من الذكريات والمشاعر والأفكار، متفجّرات قد تنفجر في أية لحظة.

لعل أجمل مثال عن مخاطر الكتابة عن الذات هو ما حدث للكاتبة الإيطالية لالا رومانو (1917 - 2000). ففي عام 1969، شهدت الساحة الأدبية في إيطاليا حدثاً بارزاً تمثّل في صدور روايتها "الكلمات بيننا خفيفة" التي نالت نجاحاً كبيراً، خصوصاً بعد حصولها على "ستريغا"، أبرز جائزة أدبية في إيطاليا منذ تأسيسها عام 1947.

أهمية الرواية لا تكمن في مضمون القصة، إذ تدور أحداثها حول علاقة سيئة متأزّمة بين أم وابنها. ما جلب الأنظار واستقطب الاهتمام وأثار النقاش، هو أن الكاتبة لم تعتمد على خيالها مطلقاً، وإنما استمدّت مادة القصة من حياتها الشخصية والأسرية.

قرّرت الكاتبة أن تكون وفيّة للواقع إلى أقصى الحدود، إذ لم تغيّر حتى اسم الابن في الرواية "بييرو"، اسم ابنها الوحيد. وقد أدّى ذلك إلى انقطاع الوصال بينهما إلى الأبد، بعدما فشلت جميع الوساطات، ورفض الابن الغاضب، في نهاية المطاف، حضور جنازة والدته وإلقاء نظرة الوداع عليها.

لا تزال "الكلمات بيننا خفيفة" تثير النقاش بين من يقف في صفّ الكاتبة ومن يتضامن مع الابن. لم تندم لالا رومانو على نشر الرواية طوال حياتها وأعلنت مراراً أن إخلاصها الأول هو للأدب فقط. مع ذلك، ثمّة سؤال محوري: هل التخلّص من رقابة العائلة (كما في "الخبز الحافي" لمحمد شكري مثلاً) هو شرط أساسي لكتابة سيرة ذاتية جميلة ومقنِعة؟

ربما كان دافع أندري جيد (1869 ـ 1951) هو التشديد على الحرية في الكتابة، عندما أطلق صرخته الشهيرة: "أيتها العائلات، أنا أكرهك!".


اقرأ أيضاً: إلياس كانيتي.. سادية الكتابة

المساهمون