يتعين على الاتحاد الأوروبي اختيار رئيسين للمفوضية والاتحاد خلال أسبوعين، وبالتحديد في 26 من الشهر الحالي، أي بعد مرور شهر على انتخابات برلمان الاتحاد، التي شهدت تقدم المحافظين واليمين المتطرف.
وستسعى القوى التقليدية إلى التصرف وكأنها لم تخسر الانتخابات، لتعمل على فرض نفسها من خلال توزيع المناصب، مستندة إلى ما ذكره مراقبون من أن اليمين، الذي اكتسح البرلمان، يدرك ببراغماتية غربية أنه لا يستطيع سوى التعايش مع نفوذ الحكومات في اختيار المناصب.
حماسة لشميت... وتخلّ عن جنكر
ارتفعت، خلال الأيام الماضية، التكهنات حول الاختيار بين رئيس وزراء لوكسمبورغ، جان كلود جنكر، ورئيسة وزراء الدانمارك الاشتراكية الديمقراطية، هيلي تورنينغ شميت، وهي التي تعززت في لقاءات القمة، واللقاءات الثنائية لسحب البساط من تحت القوى المحافظة، التي تريد فرض شروطها.
اختلف موقف المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، من جنكر حين استمعت إلى كلمات رئيس الوزراء البريطاني، دافيد كاميرون، يصفه بأنه تعبير عن "الاتحاد القديم"، وهو رئيس وزراء لوكسمبورغ لستة عشر عاماً.
وعلى الرغم من خسارة المسيحيين الديمقراطيين لستين مقعداً في الانتخابات الأخيرة، إلا أنهم يتصرفون وكأنهم منتصرون، ويريدون فرض مرشحهم لرئاسة المفوضية.
ما تريد ميركل الإيحاء به، هو أنها تنصت جيداً للمشككين في بريطانيا وغيرها في الاتحاد، ومن هنا قفز اسم رئيسة وزراء الدانمارك، وهي تتحدث عن ملاحظات "المشككين بدور الاتحاد"، غير الفعال في جنوب القارة، وتحديداً في اليونان، بينما في الشمال يتحدثون عن تدخل كبير من بروكسل، مقر الاتحاد، في شؤون الدول وسيادتها. هي لعبة شعارات أجاد اليمين العزف عليها، فحصد أصوات مواطنين عاشوا سنوات من التشويش والشك والأزمات الاقتصادية، التي زاد جرعتها، انسياب اليد العاملة الشرقية إلى بلدان الاتحاد الغربية شمالاً ووسطاً.
والتقى، في السويد، يوم الثلاثاء، بعض قادة دول الاتحاد، ومنهم كاميرون وميركل، مع رئيس وزراء هولندا، مارك روت، والرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، ورئيس وزراء السويد، فريدريك رينفيلد. وناقش الزعماء الأوروبيون حظوظ تنصيب "مفوضة" للمرة الأولى في الاتحاد، الذي كانت بعض الأحزاب والقوى تعتبره نادياً ذكورياً. وبحسب الصحف البريطانية، فإن الخيار ينحصر بين رئيسة ليتوانيا، داليا غروبا وسكيت، ورئيسة وزراء الدانمارك، هيلي تورنينغ شميت.
وفي الساعات الأخيرة، رشح ما يؤكد أن رئيس وزراء إيطاليا، ماتوو رينزي، تخلى، هو الآخر، عن دعمه لجان كلود جنكر، الذي لن يكون أمامه سوى سحب ترشحه مع انحسار التأييد والحماسة له.
ولم يكن اسم شميت طارئاً، فقد تم تداوله في بروكسل قبل أشهر من الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وفي قمة السبعة الكبار أخيراً، والحديث يجري عن ثلاثة مناصب: مسؤولية المفوضية والرئاسة والشؤون الخارجية.
وحين كانت الصحافة الدانماركية تسأل شميت عن موقفها مما يدور، كانت إجابتها مختزلة: هذه مجرد تكهنات، وأنا لن أترك خدمة الدانمارك.
لكن صحيفة " دير ستاندرد" النمساوية، تتوقع من مصادرها، أن تصبح شميت رئيسة الاتحاد الأوروبي كجزء من حزمة حلول أمام قادة الاتحاد.
إشارات غير صامتة
منصب رئاسة المفوضية ومجلس أوروبا ليسا مجرد منصبين سياسيين دوليين، بل تعبير عن مكانة أوروبا، التي لا يتوافق مع منصب مفوضها سوى منصب الأمين العام للأمم المتحدة. من هنا، إذا جرى اختيار رئيسة وزراء الدانمارك لأحد المنصبين، فسيكون هذا أعلى منصب يتولاه دانماركي على الساحة الدولية.
ورداً على أسئلة "العربي الجديد"، أوضحت رئاسة الوزراء الدنماركية "أن الأمر ليس أكثر من تكهنات".
وما يدعم احتمالات حصول شميت على المنصب، معرفتها ببروكسل، ومعرفة الأخيرة بها، ففي فترة ترؤس الدانمارك للاتحاد عام 2012، قامت شميت بدور مميز، وهي العارفة بشؤون الاتحاد، من خلال عضويتها السابقة في برلمانه.
هيلي تورنينغ شميت، هي زعيمة الحزب "الاشتراكي الديمقراطي" منذ عام 2005، وأصغر رئيسة وزراء منذ 1947؛ من مواليد 1966. ومنذ شغلها منصب رئاسة الوزراء، في عام 2011، أظهرت صلابة سياسية يعترف بها منافسوها من أحزاب اليسار واليمين، ولها حضور إعلامي كاريزمي جعلها تحصل على لقب "الأكثر مصداقية"، إثر أزمة زعيم المعارضة، لارس لوكا راسمسون، في قيادة حزبه، على خلفية شبهة تبذير مالي لرحلات عائلية، وملابس خاصة من خزينة حزبه الليبرالي.
وكانت كلمة رئيسة وزراء الدانمارك في الجلسة البرلمانية الختامية لهذا الفصل، يوم الثلاثاء، تحمل إشارات تعاكس ما ذهبت إليها رئاسة الوزراء، في جوابها لـ"العربي الجديد"، فشميت راحت تذكر بأن الدانمارك "يجب أن تكون في صلب الاتحاد الأوروبي"، وأنها ستعمل "على تعزيز موقع ومكانة الدانمارك بين دول الاتحاد". وطالبت السياسيين في بلدها بأن يحترموا مصالح الدانمارك، ودافعت عن سياساتها الملتزمة بقوانين الاتحاد ومعاهداته، التي وقعت عليها الدانمارك، وقالت في هذا الصدد إنه "في دولة العدالة لا يمكن التشكيك بحقوق الناس، الذين لهم حق التحرك والحضور والعمل في الدانمارك". وتلك إشارة إلى امتطاء أحزاب اليمين لقضايا مستحقات أطفال عمال أوروبا الشرقية في الدانمارك، وإبرازهم لتلك القضية من أجل حصد أصوات الناخبين.
وركزت شميت، في خطابها البرلماني، على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على الأسواق الأوروبية المفتوحة أمام المصدرين من بلدها. وحاولت تهدئة مخاوف المواطنين الذين صوتوا لليمين، احتجاجاً على الاتحاد، بأن ذكّرت بالرفاهية والتقدم وحرية الحركة بين الأسواق.
ما يرشح من إشارات حول التفاوض على رئاسة المفوضية الأوروبية، يستند إلى حالة جديدة فرضتها الأحزاب في الانتخابات البرلمانية، إذ بدت وكأنها انتخابات رئاسية بين مرشحين يبرزون مواصفاتهم الشخصية، ولهذا يبدو أن المسيحيين الديمقراطيين في البرلمان الأوروبي يتكتلون خلف جان كلود جنكر، بعدما خاضوا نقاشات مع الكتل الأخرى في اليمين. لكن هؤلاء يدركون أيضاً أنه إذا لم يحظَ المرشح بدعم حكومات البلدان ذات التأثير والنفوذ فلن يتم اختياره.
تصمت شميت لأنها تعرف أن الدانمارك ليست جزءاً من منطقة اليورو، وأي رئيس للاتحاد سيكون مكلفاً باجتماعات قمة اليورو. ويمكن أيضاً لمجموعة دول، سواء من أوروبا الشرقية أو غيرها، التحالف في ما بينها لمنع الدانمارك من تبوّء منصب كبير يشعر البعض بأنه الأجدر به.
لكن لا شيء في عالم المصالح والتسويات يمكن أن يمنع الألمان والفرنسيين والبريطانيين من الخروج بتوافق، تعبر عنه لقاءات ستوكهولم، ومفاوضات الأيام المقبلة، حتى موعد القمة في 26 يونيو/حزيران.
للبرلمان الأوروبي كلمة الفصل... ولكن
قانونياً، لا شك في أن مرشح رئاسة المفوضية يجب أن يحصل على أصوات 376 عضواً في البرلمان الأوروبي، لكن رئاسة المجلس الأوروبي لا تتطلب سوى موافقة رؤساء الدول. غير أن المسألة ليست بهذه البساطة، فاحتلال المناصب العليا يتطلب توازنات جغرافية بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، وتوازنات سياسية بين اليسار والمحافظين والرجال والنساء.
وحتى لو لم يبقَ سوى أسبوعين على القمة، التي ستحدد مصير توزع الرئاسات الأوروبية، فإننا اليوم أمام حالة من الغموض الذي تعززه الكتل البرلمانية المصممة على مرشحها، رئيس وزراء لوكسمبورغ السابق جان كلود جنكر، وهو الإصرار الذي تعارضه حكومات غربية عدة.
تبدو قضية توزيع المناصب في الاتحاد عملية ديمقراطية، لكنها تخفي مصالح وصراعات متضاربة على النفوذ، وتبقى ميركل الأكثر تأثيراً في هذا المجال، فهي تتفاوض، وبقوة، مع فرنسا وبريطانيا لتكون صاحبة الكلمة الفصل في مَن سيتم اختياره. بعض المراقبين الذين تحدث "العربي الجديد" إليهم، يؤكدون أن دعوة ميركل لرئيسة وزراء الدانمارك إلى تناول الغداء معها في برلين، في 19 يونيو/ حزيران الحالي، هي محاولة لفرض نفوذ ألمانيا. ويقول هؤلاء إنه "حين تتخذ ألمانيا قرارها في مسائل رئاسيات الاتحاد، فسنرى التصويت في البرلمان الأوروبي يجري بسلاسة، وبدون تعقيدات بادية هذه الأيام".
ربما تكون ميركل قد دخلت في لعبة مماحكة سياسية، لتنهي الجدل بقرار ألماني توافقي مع فرنسا وبريطانيا، حول مناصب مهمة في السنوات الأربع المقبلة من حياة الاتحاد الأوروبي.