أسئلة عن الحتميات وأوهامها

22 يوليو 2018
+ الخط -
هل كان من الحتمي أن يوصل ما جرى في 30 يونيو وما تلاه في 3 يوليو إلى ما جرى في مذبحة رابعة؟ هل كان يمكن أن نتجاوز الكثير مما جرى بعد 30 يونيو لو لم تجرفنا أوهام الحسم النهائي، فتبعدنا عن منطقة الحلول الوسط وتنهي لغة التفاوض وتعلي من منطق السحق والفرم، فتقود البعض إلى التمترس في ميداني رابعة والنهضة وتقود البعض إلى تأييد رغبة السيسي في القفز على السلطة؟

ليست هذه أسئلة عن الماضي، بل هي أسئلة عن المستقبل الذي لا زال ماضينا يزيده كابوسية، ولذلك يتوجب علينا أن نحاول الإجابة على هذه الأسئلة بهدوء وعقلانية بقدر الإمكان. لكن المشكلة أن بشاعة الحاضر الذي يعيشه ملايين المصريين بكل ما به من قهر وإفقار وظلم وكآبة متعاظمة، تجعل الكثيرين يعتقدون، ولهم عذرهم، أن الانشغال بالإجابة على هذه الأسئلة ليس إلا ضرباً من ضروب الرفاهية أو العبط.

وربما لذلك يفضل الكثيرون اللجوء إلى افتراضات الحتمية لأنها أسهل وأكثر راحة؛ فيعتقد الإخوان وأنصارهم أن مجرد الخروج في مظاهرات 30 يونيو قاد حتماً إلى مذبحة رابعة، وأنه لم يكن هناك سبيل آخر لتجاوز المذبحة إلا عودة مرسي إلى السلطة. ويعتقد أعداء الإخوان أنه لم يكن هناك من طريق للخروج من المأزق السياسي الذي دخلت فيه البلاد عقب 3 يوليو، سوى سحق الإخوان في رابعة والنهضة وتفويض السيسي ليعتلي السلطة.
وأزعم أن استسهال اختيار الحتمية يحمل معه رغبة في الهروب من الاعتراف بالخطايا التي أدت إلى 30 يونيو، ورغبة في الهروب من المسؤولية عن المذابح التي تلته، ولا يمكن أن تفصل تلك الرغبة عن الرهان الذي لا زال يسود لدى الكثيرين على معجزة ما تقوم بتغيير صورة الواقع الكئيب حسب هواهم، دون الاستمرار في مواجهة تبعاته المأساوية.

على صعيد السلطة، يتصور السيسي أن تلبيته الكاملة لطلبات صندوق النقد الدولي في ظل استسلام كامل من الشارع لوطأة "الصب في المصلحة"، قد تقود إلى تحقيق تحسن اقتصادي سريع، إذا استمرت أموال الخليج في التدفق بعد استكمال ترتيبات صفقة القرن وما تلاها من إجراءات اقتصادية مرتبطة بها.

ولذلك لم يعد السيسي مكترثاً بإخفاء نواياه أو تجميلها، فمع كل إجراء اقتصادي يزيد العبء على المواطن العادي الذي اكتسب السيسي شرعيته من تفويضه وتأييده، يتوجه السيسي إلى تكتل أصحاب المصالح الذي يحميه بقرار استرضائي ضامن لاستمرار الولاء، في الوقت الذي يحرص فيه على تمتين دائرته الضيقة وتأمينها من كل ذي خطر محتمل وإن بدا بعيداً، فقد أصبح جلياً للكل أن أي خطر حقيقي على السيسي سيكون من داخل دولاب الدولة، أو ممن سبق له أن كان داخل دولابها، ومع ذلك ليس هناك ما يمنع أن يتم منح الفرصة كاملة لضباط أمن الدولة لكي يثبتوا ولاءهم وقدرتهم على تأمين النظام، ولكي يصفوا حساباتهم القديمة أيضاً.

أما في ساحة المعارضة، إذا تجاوزنا عن الاختزال الذي تتطلبه المساحة، وافترضنا أن هناك معارضة واحدة يمكن أن تجمعها ساحة ما، لا يزال كل شيء كما كان في 30 يونيو الماضي والذي سبقه والذي سيليه، لأسباب أصبح تكرارها مضيعة للوقت. قبل أيام قرأت كلاماً كتبه ثوري متحمس أشار فيه إلى ضرورة أن تخرج جماعة الإخوان وأنصارها من الحياة السياسية للأبد، لأنها انتهت.
وبالطبع تابعت ما أثاره كلامه من مشادات وملاعنات معتادة وممجوجة، لكن ما لفت انتباهي أكثر هو اليقين الذي تحدث به صديقي الثوري عن نهاية جماعة الإخوان وتيار الإسلام السياسي إلى الأبد، فتساءلت عما إذا كان قد زار مؤخراً العديد من مدن مصر وقراها ليصل إلى هذا الاستنتاج، أم أنه استنبطه من مشاهداته على وسائل التواصل الاجتماعي التي تمنحك خيار مشاهدة ما تحب أن تشاهده فقط.
لا أدعي أنني زرت مدن مصر وقراها لأصل إلى استنتاج معاكس، ولست مشغولاً بطرح شواهد تعاكس رأيه مما أشاهده على وسائل التواصل الاجتماعي، وحاشا لله أن أعظ أحداً فأذكره بأنه لا يليق أن يدعو للحرية، وأنت تحجر على غيرك أن يعبر عن رأيه وينشغل بهموم وطنه؛ فلو كان مثل هذا التذكير يجدي لأجدى في السابق، حين كان المرء يظن أنه ليس من الصعب الجمع بين معارضة تيارات الشعارات الإسلامية بما فيها جماعة الإخوان وبين رفض إهدار حقوق وآدمية ومواطنة أنصارها، ليتضح بالتجربة أن مجرد التفكير في هذا بصوت عال يمكن أن ينزع عنك حقوقك وآدميتك ومواطنتك ووطنيتك، فضلاً عن أنه ليس كافياً ولا مُرضياً لأنصار جماعة الإخوان الذين لا يرضون بأقل من إبداء الندم وبوس القدم على معارضة مرسي ومباركة عزله.

لم أعد كما كنت منذ عامين راغباً في الجدال أو متحمساً للمكايدة وتبادل الاتهامات، ليس لأن العقلانية هبطت عليّ فجأة، أو لأن الملل تمكن مني. ولا يمكن لأي عاقل أن يستهين بتأثير الملل على النفوس، بل لأنني أجد الإفراط في ذلك عيباً، في ظل وجود كل هذه المظالم التي لا يتكلم عنها أحد بحماس واهتمام، لأنها تقع على أنصار جماعة الإخوان والمتعاطفين معهم.

ليس عندي أدنى شك في أن الكتابة عن هذه المظالم سيغير شيئاً، ولا أعيب على من يكتفي بالكتابة عن المظالم التي تقع على أعضاء التيار السياسي الذي ينتمي إليه، ولا أتصور أن الكتابة عن مظالم الجميع دون تفرقة ستفتح القلوب والعقول، وستدعو الجميع إلى النقد والمراجعة. فقد أصبحت محصناً ضد الإصابة بهذه الأوهام، لكني أصبحت محصناً أيضاً ضد الفرحة بالمكايدة والحماس للجدال وتبادل الاتهامات، برغم أنها أمور تضفي على الحياة حماساً يجعلها مبلوعة أكثر. لكن لماذا أنشغل بالنقاش مع من يرى أن مواصلة سحق الإخوان وأنصارهم ستفيد البلد، إذا كان يرفض إدراك الواقع المحيط به، ويظن أن الحياة ستسير دائماً على هواه هو وأصدقاءه الواقعيين والافتراضيين، ولماذا أنشغل بالنقاش مع من يرغب في تكرار أخطاء الماضي، والتحالف من جديد مع الإخوان وتصديقهم والاعتذار لهم، لأنه لم يساعدهم على تحقيق حلم التمكين الأردوغاني الذي ظنوا أنه أقرب من حبل الوريد، مع كامل الاعتذار لأردوغان بكل عيوبه وأخطائه على وضعه في نفس السياق مع خيرت الشاطر وأمثاله.
لماذا تسمح لنفسك بإضاعة الوقت مع من يعتقد أن ما جرى في 30 يونيو بدأ فقط في 30 يونيو، ومع من يظن أن تأييد 30 يونيو كان لا بد أن يقود إلى مذبحة رابعة وما سبقها وما تلاها، أليست الحتميات مريحة لهؤلاء بشكل لا يمكن أن يختاروا بديلاً عنه؟ ألم تساعد على إعفاء الكثيرين من مسئولية التفكير فيما جرى بعد 11 فبراير 2011؟ ألم يرتح هؤلاء إلى نظرية أن كل ما جرى من أحداث ومذابح وتطورات بعد خلع مبارك كان مخططاً له بدقة من الدولة العميقة التي لا يمكن هزيمتها ولا التغلب على مخططاتها الجهنمية؟ ووجدوا في تصديق ذلك بديلاً أكثر راحة من محاسبة النفس عن الانجراف وراء العواطف الجياشة والصوت العالي والتصورات الخرافية التي لا علاقة لها بالواقع؟

ما الذي سيجعل هؤلاء جميعاً يتغيرون الآن بالتحديد؟ ولماذا لا يواصلون التصور أن الحل يكمن في العودة إلى نقطة الميدان دون التفكير ـ مجرد التفكير ـ في تصور سياسي للتعامل مع سيطرة المؤسسة العسكرية التي تحتاج إلى ما هو أكثر من رفع شعارات حماسية في وجهها؟ وتصور سياسي للتعامل مع تيارات الإسلام السياسي أو الشعارات الإسلامية أو سمها ما شئت خاصة إذا أدركوا أن اختفاءها من الواقع لن يكون بالسهولة التي يتصورونها؟ هل من العدل أن تطلب ممن يرغب في الخلاص من وطأة القمع أن ينشغل بالتفكير؟ هل من العقل أن تطلب التعقل ممن يعاني من قهر إغلاق المجال السياسي والثقافي؟ أليس في ذلك تعالياً على الواقع يستوجب الغضب ويجعلك أهلاً لكل ما يلحق بك من شتائم واتهامات؟ هل تتصور أنك ستقنع أحداً حين تقول أن البديل الذي يبحث الجميع عنه ويلعنون غيابه، لن يتحقق إلا بالتفكير والتنظير وطرح الأسئلة الصعبة خصوصاً إذا كان ذلك متاحاً بين من يعرفون بعضهم البعض على مستوى القعدات واللقاءات الضيقة والحسابات الشخصية؟

ألا يجب أن تعترف أنك أحياناً تحن إلى الحل السهل الذي يتصور الجميع أنه سيطيح برأس النظام ويأتي برأس آخر ليس مهماً من هو؟ المهم أن يرفع المظالم ويجعل البلد تلتقط أنفاسها، حتى لو أعاد البلاد إلى أيام الاستبداد الناعم والفساد الحويط.
هل هناك من يقوم الآن بمهمة التفكير في المستقبل ولو في "جروبات سرية" أو تنظيمات "تحت أرضية"؟ هل يوجد من يفكر في أهمية البعد عن المشاعر التطهرية التي لا تتفق مع العمل السياسي، والتي تخدع الإنسان وتجعله يتوهم لنفسه حجماً أكبر من حجمه، وتدفعه إلى تكرار أخطاء الماضي؟ هل الوقت مناسب لطرح أفكار تفرق بين المراجعات والتراجعات؟ ألا يساعدنا التنابز بالمواقف والتذكير بها على تأكيد خصومتنا السياسية وتعميق خلافاتنا التي لن نستطيع بناء بدائل سياسية بدون التأكيد عليها؟ ألم يحن الوقت لإدراك أن لحظة الميدان كانت لحظة فارقة يجب مفارقتها، إذا كنا لا نرغب في تكرار أخطاء الماضي؟

أم أن كابوسية الواقع الخانق تجعل من المستحيل فعل شيء سوى الحلم بالخلاص السريع والدعوة إليه؟ أليس من الصعب على الإنسان أن يواجه نفسه بحقيقة ابتعاد الطريق أكثر وأكثر، فيدفعه ذلك إلى مزيج من المكابرة وإنكار القلق وادعاء الأمل، أو يجعله يهرب إلى اتجاه معاكس، يستلذ فيه بنشوة اليأس الكامل، حتى وإن أدرك بعد قليل أنه لا يمتلك رفاهية التوقف عن مواصلة المسير، هل سيكون من المجدي أن ندعو إلى إزاحة الغمة، ونتجاهل أن كل غمة بالضرورة هي تعبير عن مصالح وعلاقات قوة، مهما تخفت خلف شعارات دينية أو وطنية أو حضارية، ولن نزيحها إلا إذا أدركنا ذلك وفهمناه جيداً؟

ليست الأسئلة مبهجة بشكل عام، فما بالك بها حين تُطرح في وقت شديد الكآبة كالذي نعيشه الآن، لكن الأسئلة ستظل أهم ما نملكه، إلى جوار المواساة والتعاطف ومشاركة الأحزان ودعم كل من نستطيع أن ندعمه ولو بكلمة، وفيما عدا ذلك ليس بمقدورنا سوى أن نسأل ونفكر في أسئلتنا، لأننا لن نفقد اهتمامنا بالشأن العام، حتى لو تصورنا ذلك، وستثبت الأيام للكثيرين عكس ما يعتقدونه عن قدرتهم على الانفصال عن الواقع، ولا أظن أن إقناعهم بذلك ممكن، في الحقيقة لا أظن أن أحداً يحتاج الآن إلى إقناع الآخرين بما يؤمن به، وأن كل ما يمكن فعله هو أن تطرح ما لديك من أسئلة وأفكار، في الحيز الذي تستطيعه، وأن تبحث عمن يشاركك في تلك الأسئلة والأفكار، فقد حدث ذلك في كل لحظات خنق المجال العام في تاريخ العالم، وهي لحظات لا تطول وإن طالت لا تدوم، ولا حصانة لأحد من الهلاك خلالها، ولا يمكن لأحد التعالم وادعاء أن هناك وصفات مضمونة للخلاص منها، لكن ربما كان بوسع من استطاع أن يحرر عقله ومشاعره من سطوة اللحظة الراهنة وبطش المحيطين به، أن يدرك أهمية أن يحافظ على عقله من الجمود ومشاعره من انعدام التعاطف مع المظلومين مهما كان مختلفاً معهم، وليس ذلك بالهين، لكنه ليس بالمستحيل، وأظنه مهماً لأن يكون نقطة البداية.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.