أسئلة إشكالية وأجوبة مقلقة

18 فبراير 2015

تظل الأجوبة معلقة على أكثر من مشجب (Getty)

+ الخط -

آخر شهود الزمان الملكي في العراق، المقيم في عمّان، عدّ نفسه أول مهاجر عراقي يترك البلاد باختياره، بعد أن سقطت في قبضة العسكر عام 1958، وطوال أكثر من ستة عقود، لم يزر بغداد سوى مرة، انفصمت علاقته بعدها ببلده، واعتبر مهجره الأردني وطنه، طرح عليّ سؤالاً إشكالياً: ما معنى الوطن، إذا لم يوفر لمواطنه الحرية والأمان والكرامة؟

تكرر طرح هذا السؤال علي مرات، وأنا في الأردن، من ملكيين وليبراليين وعروبيين وشيوعيين سابقين، عاشوا التغريبة العراقية، في أحد فصولها، واستوطنوا الأردن، وانفصمت علاقتهم ببلدهم الأول، أو كادت، تحدثوا معي بمرارة عن أماكن أولى ألفوها، وألفتهم، وأناس ارتبطوا بهم وعبرهم، وأحداث جمعتهم، ثم فرطت عقدهم، حدثوني كذلك عن "أيديولوجيات" هجروها وهجرتهم، أحدهم قال لي بمرارة: "ذاك عصر طويناه، وهذا عصر آخر نتركه لأبنائنا وأحفادنا".

سمعت من أحد وزراء ما بعد التغيير في 9 أبريل/نيسان 2003 أن عمّان توفر له ولعديدين ممن يعرف من سياسيين ومثقفين الجو الذي افتقدوه في بلادهم. هنا، يقولون كلمتهم بحرية، لا يخشون مسدساً كاتماً للصوت، ولا سكيناً تغرز في الخاصرة. أسس هذا الوزير ومجموعة من أصدقائه منتدى للحوار في شؤون الفكر والاقتصاد والآداب والفنون، استبعدوا السياسة لأنها "تفرق ولا تجمع"، أضاف: "قضينا أعمارنا، ونحن نعمل في السياسة، وعندما أدركنا خريف العمر، اكتشفنا أن السياسة في بلداننا باطل الأباطيل وقبض الريح".

المفارقة الأخرى أن بين العراقيين المقيمين في الأردن، اليوم، ممن كانوا يناصبون عمّان الخصومة، الفكرية على الأقل، بحكم توجهاتهم السياسية، لكنهم، اليوم، يجدون فيها الملجأ الذي يلوذون به، بعد أن عصفت بهم الحادثات. ألوف غيرهم شكلت عمان محطتهم الأولى، عند هجرتهم من بلدهم. كانوا يريدون أن تكون معبرهم إلى عواصم الغرب، لكنهم تأقلموا مع ما هو ماثل، بعدما اكتشفوا أن وجودهم في الأردن يكاد يشبه وجودهم في العراق، بحكم التماثل بين أحوال البلدين، يكاد يصل هذا التماثل إلى درجة التطابق في العادات واللغة والطقوس والعلاقات الاجتماعية. لكن، ثمّة شيء اسمه "الوطن الأول"، ظل يستوطن ذاكرتهم، ويضع على شفاههم سؤالاً محيراً: متى العودة؟ لكنهم لا يتلقون من أحد جواباً شافياً!

سيدة عراقية قالت إن عمّان تشبه بغدادها التي عرفتها أيام زمان. ولذلك، قررت الاستقرار هنا، تساءلت هي الأخرى: "ما حدود العلاقة بين المرء وموطنه الأول، وماذا تعنيه الأرض التي يولد عليها، ويسكن، ويساكن، ثم تأتي قوة تسلخه عنها، وتقذف به بعيداً؟"

هكذا هو الأردن، أول المنافي عند العراقيين، وآخرها، ومن زمان، وهم يشعرون أن عمان هي الأقرب لهم من أية عاصمة أخرى، ولا يجدون تمايزاً بينهم وبين من سكن البلاد قبلهم. ولذلك، لم يعد غريباً أن يتقاسموا هوية المدينة مع الأردنيين، كما تقاسمها قبلهم الفلسطينيون، وسيتقاسمها السوريون أيضاً، لكأنما كُتب على عمّان أن تكون عاصمة العرب في كل الأزمنة، على الرغم من قلة الزاد، وضيق المكان.

وفي كل الأحوال، يظل السؤال الأكبر عند عراقيي الأردن عن معنى "الوطن" الذي يجدونه، كما وجده الفلسطينيون قبلهم، في صور "البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى"، وكما سأل محمود درويش: "كيف تتسع كلمة الوطن لكل هذه المفردات وتضيق بهم"، فإن العراقيين يسألون أيضاً: كيف يتسع الوطن لكل هذا، ويضيق بهم؟

أسئلة إشكالية كهذا السؤال تُطرح وتستعاد، تضع قضية العراقيين المهاجرين، أو المهجّرين على الرغم من أنوفهم، في الأردن، وفي غير الأردن على الطاولة، لكن الأجوبة تظل معلقة. دبلوماسي عراقي يعطي جواباً جاهزاً "بغداد عرضت على المهاجرين العودة، قدمت تسهيلات ومساعدات مالية لتشجيعهم، ولضمان حقوقهم، وقد تم تسفير عشرات الأسر"، عراقيون يسخرون من هذا الكلام، "بعضهم سافر استناداً إلى هذا الوعد، لكنه اكتشف أن حكومة بغداد في واد آخر، وربما الأمر ليس في يدها، إنه في يد "مليشيات" لا تريد لهؤلاء أن يعودوا"

عدم إعادة العراقيين المهاجرين يخدم مخطط التغيير الديموغرافي الذي تقف وراءه جهات أجنبية. يشير مراقبون بإصبع الاتهام إلى طهران، وواحد ممن نعرف يجزم أن رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، أبلغ الأردنيين أن حكومته مستعدة لدفع المال والنفط مقابل استيطان هؤلاء في الأردن، أو مساعدتهم على إعادة الاستيطان في بلدان أخرى، ويُنقل عن المالكي قوله: "لا نريد هؤلاء، ولسنا في حاجة لهم".

تكبر الأسئلة الإشكالية، وتظل الأجوبة معلقة على أكثر من مشجب، وتتحول التغريبة العراقية إلى بلاد الله حكايات يتداولها الركبان، والسؤال الأكبر يظل من دون إجابة: ما معنى الوطن، إذا لم يوفر لمواطنه الحرية والأمان والكرامة؟

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"