أزمنة حماس وأزمتها

26 ابريل 2015
"خرزٌ قلِق"، منى حاطوم
+ الخط -

عادة ما تبدأ النقاشات حول الإسلاميين في فلسطين، بجعلهم جزءاً من الظاهرة الأوسع وهي الإسلام السياسي في المنطقة العربية. تجعل هذه العملية من العوامل المشتركة الصفات الوحيدة للظواهر، وهو اختزال يخطئ في فهم الإسلاميين وفلسطين معاً.

فإذا كان الإسلام السياسي، بالحدّ الأدنى من التعريف، هو مجموع الحركات الإسلامية الراغبة في الوصول إلى السلطة؛ فإنّ هذا التعريف لا ينطبق على الحالة في فلسطين، لأن ليست ثمة سلطة متاحة للتداول. وبما أننا سنتناول حركة حماس دون غيرها، فإنّ المُركّب الأبرز في تكوينها، وهو المقاومة، لا يجد له مكانًا في التعريف السابق. فحتى عندما قرّرت حماس المشاركة في السلطة برّرت ذلك لنفسها وللآخرين بأنها تريد "حكومة تحمي المقاومة".

وبغض النظر عن هذه المقولة - التي ثبت عدم صحتها، وباعتراف رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل - إلّا أنّ المقاومة هي محور التفكير هنا، وعليها تُبنى الشرعية ولأجلها. وهذا لا يشبه، وإن لم يكن النقيض، تجارب الإسلاميين في الوطن العربي.

الذي يعود لميثاق الحركة (1988) لا يجد غير إمام مسجد متحمّس لحكم العالم بالإسلام. وبذلك لا يمكن دراسة الميثاق إلا بوصفه وثيقة تاريخية، فليس غريباً أن لا يمت برنامج حماس السياسي (2006) بأيّ صلة للميثاق. غير أن هذا الانزياح لا يُعبّر عنه وفق توجّه فكري وسياسي واضح. وإن كانت الممارسة تخلق تنظيرها، ومن ثم يقترح التنظير ممارسة تشبهه، فإنه ليس ثمة معادلة يمكن صياغتها تربط التنظير والممارسة في حالة حماس، وهذه الحالة تجعل من صيرورة التغيير مسألة محفوفة بالمخاطر والمفاجآت.

لقد ورثت حماس، بادئ الأمر، عن الإخوان المسلمين ذلك الكسل التنظيمي وهو يبشّر بصلاح الفرد الذي سيقوم بدوره بإصلاح الأسرة التي ستصلح المجتمع، وصولاً لإقامة الدولة الإسلامية. جعل هذا التصوّر من حماس تبدو جماعة سلفية دعوية في بدايتها (مرحلة المساجد 1967-1975)، ثم توسّعت لتصبح جماعة اجتماعية أهلية تقدّم الخدمات (مرحلة المؤسسات 1975-1987) ثم انتقلت لجماعة وطنية (التنظيم 1987).

وفي هذه المرحلة، بدأت الحركة تفكك فيها الفرد وتعيد تركيبه عبر فضاء المساجد من جهة، ومن خلال نموذج الاستشهادي لاحقاً الذي أخذ طاقة المخيال التربوي إلى مداها، حيث تحوّل الجسد الذي تمارس عليه سلطات الضبط الاستعمارية لموضِع مقاومة من خلال فنائه وتطلّعه لحياة أوسع.

أما مرحلة المشاركة في السلطة (2006) فتحوّل فيها "فقه اللحظة" من وظيفته كسدٍّ لفراغ التنظير إلى حاجة ملحّة في التعامل مع واقع جديد، لا يحتمل كثافة الإيديولوجيا. فطُرحت فكرة القبول بحل الدولتين كخيار سياسي مرحلي، وفي الواقع بدت كلمة "مرحلي" كمسكّن لجماهير الحركة أكثر من كونها كلمة سياسية لها معنى.

إن الجديد في "الانقسام الفلسطيني" هو تسميته، والتسمية هنا تحجب أكثر مما تصف. فهي تشي بوجود صراع إرادات حول الكرسي. خلاف ذو طابع سياسي جذري، من يبحث في جذوره يجد أنه قد بدأ مع قدوم السلطة التي أدركت مبكراً أنها أمام مهمة احتكار "العنف"، إلا أننا أمام سلطة تريد احتكار العنف دون أن تحمي مواطنيها من عنف محدق بهم.

لقد بدأت السلطة بعدد ضخم من قوات الشرطة والأمن، حيث كان هناك ثلاثون ألف رجل أمن (لنحو مليونين ونصف مليون من السكان) بعد عامين من عمر السلطة. وهذا يعني: شرطي لكل 84 شخصاً. وبالمقارنة فلندن، مثلاً، نجد فيها شرطياً واحداً لكل 3200.

بعد أشهر قليلة من قيام السلطة الوطنية بحسب اتفاق أوسلو، قتل على يدها 13 فلسطينياً في غزة وانطلقت حملة اعتقالات عقب العمليات العسكرية التي قامت بها حماس في شباط/فبراير وآذار/مارس 1996، وأدت لمقتل 60 إسرائيلياً.

التزمت حماس، في ذلك الوقت، بعدم الرد، ولم يكن مطروحاً لديها سؤال السلطة، مما يعني أن تناقض البرنامجين ووضوحهما أيضاً يمكن تتبعه منذ تلك اللحظة. وهذا التشخيص يوفّر انشغال الحركة الوطنية بمسألة الانقسام بوصفها حدثاً طارئاً خلقته ظروف الحكم، ويجعله منصبّاً على نقاش ثوابت التحرير.

استناداً إلى شرعيات الانتصار التي أثبتت فيها حماس براعة قتالية عالية؛ فإنها توجّهت لفرض "قيم المحافظة"، وهي ليست أسلمة كما يروّج، وإنما تعبيرٌ عن غياب الأسلمة التي لم يكن بالإمكان الشروع فيها، وهذا بالضرورة أضر بعلاقتها بالمجتمع.

سرعان ما اكتشفت حماس أن المحافظة على القطاع أصعب بكثير من الحصول عليه، ورافق ذلك رهانات خاطئة ضمن لعبة التغيرات الإقليمية. فإن كانت قد راهنت على حصان خاطئ في مصر، فهي لم تراهن على أيّ حصان في سورية لتخسر إيران بشكل أوتوماتيكي، وهكذا بدت مكشوفة في إقليم يعيد ترتيب نفسه ولديه فواتير يسدّدها بالدماء. لكن الأخطر هو محاولة تقديمها كطليعة مقاومة ممثلة لأهل السنة في مقابل مقاومة تمثّل الشيعة، وهو شيء وإن لم ترده فإن عرّابي الطائفية ومحركيها يطلبونه.


(باحث فلسطيني/ رام الله)

المساهمون