07 اغسطس 2024
أزمة القوى العلمانية المصرية
ستظل ذكرى الانقلاب العسكري على أولى تجارب الحكم الديمقراطية، في مصر 3 يوليو/ تموز 2013، حدثاً تاريخياً كاشفاً ومذكّراً بأزمة القوى العلمانية (اليسارية والليبرالية) المصرية، التي انحازت أغلبيتها للانقلاب العسكري، وبرّرته ودافعت عنه، خصوصاً في البداية، منطلقة من صراعها المحتدم مع القوى الدينية (الإخوان المسلمين والسلفيين)، الذي وصل إلى مداه خلال حكم الرئيس المنتخب محمد مرسي.
وقع الانقلاب بدعم واسع من القوى اليسارية والليبرالية المصرية، التي انحازت له تحت شعاراتٍ مختلفة، كالحفاظ على الدولة المصرية، ومكافحة جهود أخونتها، ومكافحة الإرهاب والتطرّف، ورفض اختطاف التيار الديني مصر ثقافياً وسياسياً. بل استخدم عدد من أبرز مثقفي القوى العلمانية، كالكاتب علاء الأسواني، شعارات سابقة لتبرير أسوأ الانتهاكات التي تعرض لها أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وأنصارهم بعد الانقلاب. وما زالت قوى علمانية رئيسية تقف في مساحة رمادية تتقاطع جزئياً مع معسكر النظام الحاكم الاستبدادي، المنقلب على تجربة الحكم الديمقراطي، رافعة شعار الصراع مع جماعة الإخوان. فعلى سبيل المثال، نشرت الحركة المدنية الديمقراطية بياناً في 25 يونيو/ حزيران 2019، تدين فيه اعتقال الأمن بعض شباب الثورة القريبين منها، وترفض اتهام السلطات هؤلاء الشباب بأنهم على علاقة بجماعة الإخوان المسلمين، واصفة نفسها بأنها "قوى وأحزاب مدنية تؤمن وتعلن في كل لحظة التزامها بالدستور ومبادئ العمل الديمقراطي.. جزء من الدولة المصرية، ولسنا خارجين عليها". وتضم الجبهة في عضويتها أحزاباً وجماعات بارزة، معبرة عن القوى الليبرالية واليسارية الداعمة ثورة يناير، كالحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وتيار الكرامة، وحزب الدستور، وحزب العيش والحرية (تحت التأسيس).
ويبدو من التعريف السابق أن الجبهة تؤمن بتعريف غير ديمقراطي للدولة المصرية، يتقاطع مع تعريف النظام الاستبدادي الحاكم لها، فالدولة كيان اعتباري، مكون من شعب وأرض وحكومة. والحكومات نوعان، ديمقراطي لا يقصي معارضيه، أو استبدادي يحتكر الحديث باسم الدولة، ويعتبر الخروج عليه خروجاً على الدولة المصرية نفسها. وللأسف، تنحاز الجبهة للنظام
وتعريفه الاستبدادي للدولة، تحت شعار الخصومة مع الإخوان المسلمين، معتبرة أن الخروج عليه خروجاً عن الدولة، ومتجاهلة أن النظام الحاكم نفسه خارج على الديمقراطية، وأن الشعب المصري نفسه خرج على هذا النظام في يناير/ كانون الثاني 2011.
وعلى الرغم من مرور ست سنوات على الانقلاب العسكري، وظهور أدلةٍ كثيرة على تآمره على تجربة الحكم الديمقراطي، بدعم خارجي، وتلاعبه بإرادة المصريين، ترفض تلك القوى الاعتذار عن دورها في تظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013، التي قادت إلى الانقلاب العسكري، ودورها في الانقلاب العسكري نفسه، ومشاركتها في حكومة الانقلاب. وما زالت تعتبر ما حدث خروجاً على حكم الإخوان المسلمين، متجاهلة دور قوى النظام القديم والثورة المضادة في المنطقة (إسرائيل والسعودية والإمارات) في دعم الحدثين. ناهيك عن استمرار تلك القوى في انقسامها، وتشرذمها، وضعف تواصلها الجماهيري، وإذكائها الاستقطاب السياسي.
ليست المشكلات العميقة السابقة وليدة اللحظة، بل تعبر عن أزمة أعمق في بنية القوى العلمانية المصرية. ولعل ذكرى الانقلاب العسكري بأخطائه الجسيمة، واستمرار تلك المشكلات على مدى السنوات الست الماضية، هما فرصة للتذكير بعمق أزمة القوى اليسارية والليبرالية المصرية وأسبابها الحقيقية، أملاً في البحث عن حلولٍ جدّية لها، فالاختباء خلف ستار الصراع الديني العلماني، وتبنّي تفسيرات القوى العلمانية لتصرفاتها السياسية المأزومة يعفيانها من مسؤولياتها، ويؤجلان علاجها.
السبب الأول والأهم لأزمة القوى العلمانية المصرية هو بنية النظام السياسي الحاكم منذ عام 1952، التي لا تسمح بتطور مجتمع مدني حر، متعدّد مراكز القوى. أسس نظام 1952 لدولة استبدادية شبه شمولية، يتحكّم فيها هرم النظام السياسي، بمختلف مكونات الحياة السياسية، ويسعى إلى تقويض أسس التعدّدية السياسية في مهدها. وبادر النظام إلى تأميم الاقتصاد، مدمراً طبقة ملاك الأراضي في الستينيات، ولما تبنّى الرأسمالية في السبعينيات، لجأ إلى رأسماليةٍ مشوهة تابعة له، وتدور في فلكه. وبهذا دمر المكوّن الاقتصادي لظهور قوى علمانية ممولة من المجتمع وطبقاته العليا والوسطى. وحلّ نظام 1952 أيضاً الأحزاب السياسية، وحارب القوى الشيوعية واليسارية، وحوّل المتبقي منها إلى قوى شبه حكومية تدين له بالولاء. وقام، من خلال التحكم في موارد الدولة، بتحويل القوى الليبرالية جزءاً من منظومته الثقافية والسياسية، كحال بعض المثقفين الليبراليين الذي عملوا من داخل نظام حسني مبارك.
كما عمل النظام باستمرار لتدمير استقلالية المجتمع المدني، ومؤسسات الدولة الأكثر استقلالية، وفي مقدمتها مؤسسة القضاء، حيث تعرّض القضاة المستقلون للإقصاء منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر. وسعى خلفاؤه إلى التحكم المستمر في مؤسسة القضاء، مدمرين سعي روّاد الحركة القضائية المصرية إلى بث روح الحرية واحترام القانون والدستور. أضف إلى ذلك فشل سياسات النظام المصري التعليمية والاقتصادية، ما قوّض مقومات الطبقة المصرية الوسطى، التي تعدّ المعين الأهم للقوى العلمانية والسياسية المصرية المختلفة.
ثانياً: بسبب بنية النظام السياسي المصري السابقة، عانت القوى العلمانية المصرية من مشكلات هيكلية، كضعف التمويل، والملاحقة القانونية، والعجز عن العمل الجماهيري، حفاظاً على سلامتها وعلاقتها بالنظام ومصالحها الفئوية أحياناً. وهي عواملُ قوّضت إمكانات تلك القوى وقدراتها تباعاً، وتحولت إلى قيود داخلية صارمة، بعد عقود من تطبيقها. حتى أصبحت القوى العلمانية المصرية تتهم بالنخبوية، وبأنها نخب شبه رسمية، تعمل في أحيان كثيرة ضمن النظام المصري ذاته، وليس خارجه.
ثالثاً: يمثل صراع القوى العلمانية المصرية مع التيار الديني ستاراً رئيسياً، تخفي وراءه القوى العلمانية عيوبها الهيكلية من ناحية، وفرصة لتقرّب تلك القوى من النظام المصري من ناحية أخرى، كما حدث في يوليو/ تموز 2013. حيث ترفض تلك القوى، في أغلب الأحيان، الاعتراف بأن النظام المصري نفسه هو المسؤول عن مشكلاتها ومشكلات القوى الدينية سواء، فنظام عبد الناصر هو الذي حلّ الأحزاب، وسعى إلى تأميم الحركات الاشتراكية والشيوعية. ونظام السادات هو الذي فتح الباب للتيار الديني (الإخوان) لمنافسة القوى الاشتراكية، وأسس
للتعددية الحزبية المقيدة. ونظام مبارك هو من فتح الباب للقوى السلفية لمنافسة الإخوان المسلمين. ونظام 1952 هو الذي يقوّض فرص التحول الديمقراطي ومقدّرات التيارات الدينية والعلمانية معاً بشكل مستمر ومنظم. وهو الذي انقلب على القوى العلمانية بعد تحالفها معه في "30 يونيو"، و"3 يوليو"، وبعد الانقلاب، وحتى بعد أن دعم بعضُها أسوأ انتهاكاته الحقوقية.
رابعاً: تتبنّى بعض القوى العلمانية رؤى تسويفية للديمقراطية تبرر بها عجزها عن مواجهة النظام، وتحميله تبعات سياساته. حيث تتبنّى بعض مقولات النظام نفسه كعدم استعداد المصريين للديمقراطية، لأسباب مختلفة، كتراجع مستويات التعليم ومعدلات التنمية الاقتصادية، وكالحرب على الإرهاب، والأطماع الخارجية، والحفاظ على استقرار الدولة ومؤسساتها، متناسيةً أن سياسات النظام هي من يقوّض فرص التحول الديمقراطية والاستقرار والتنمية والمؤسساتية بلا توقف.
ولعل ما يدعو إلى التفاؤل، على الرغم من المشكلات العميقة والمركبة السابقة أن انتفاضة يناير، والسنوات التالية لها، كشفت عن صعود قيادات شابّة علمانية خارجة عن طوق القوى العلمانية التقليدية. قيادات شابّة ترفض التسويف، والنخبوية، والانشغال بالصراع الديني العلماني. وتحمّل النظام المسؤولية عن أزمات البلاد المختلفة، وتحاول العمل مع الجماهير. ولعل هذا يعني أننا أمام مخاض تاريخي عسير، قد يقود إلى صعود قوى علمانية جديدة، تتخطّى عيوب القوى العلمانية التقليدية، ولو بعد حين.
ويبدو من التعريف السابق أن الجبهة تؤمن بتعريف غير ديمقراطي للدولة المصرية، يتقاطع مع تعريف النظام الاستبدادي الحاكم لها، فالدولة كيان اعتباري، مكون من شعب وأرض وحكومة. والحكومات نوعان، ديمقراطي لا يقصي معارضيه، أو استبدادي يحتكر الحديث باسم الدولة، ويعتبر الخروج عليه خروجاً على الدولة المصرية نفسها. وللأسف، تنحاز الجبهة للنظام
وعلى الرغم من مرور ست سنوات على الانقلاب العسكري، وظهور أدلةٍ كثيرة على تآمره على تجربة الحكم الديمقراطي، بدعم خارجي، وتلاعبه بإرادة المصريين، ترفض تلك القوى الاعتذار عن دورها في تظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013، التي قادت إلى الانقلاب العسكري، ودورها في الانقلاب العسكري نفسه، ومشاركتها في حكومة الانقلاب. وما زالت تعتبر ما حدث خروجاً على حكم الإخوان المسلمين، متجاهلة دور قوى النظام القديم والثورة المضادة في المنطقة (إسرائيل والسعودية والإمارات) في دعم الحدثين. ناهيك عن استمرار تلك القوى في انقسامها، وتشرذمها، وضعف تواصلها الجماهيري، وإذكائها الاستقطاب السياسي.
ليست المشكلات العميقة السابقة وليدة اللحظة، بل تعبر عن أزمة أعمق في بنية القوى العلمانية المصرية. ولعل ذكرى الانقلاب العسكري بأخطائه الجسيمة، واستمرار تلك المشكلات على مدى السنوات الست الماضية، هما فرصة للتذكير بعمق أزمة القوى اليسارية والليبرالية المصرية وأسبابها الحقيقية، أملاً في البحث عن حلولٍ جدّية لها، فالاختباء خلف ستار الصراع الديني العلماني، وتبنّي تفسيرات القوى العلمانية لتصرفاتها السياسية المأزومة يعفيانها من مسؤولياتها، ويؤجلان علاجها.
السبب الأول والأهم لأزمة القوى العلمانية المصرية هو بنية النظام السياسي الحاكم منذ عام 1952، التي لا تسمح بتطور مجتمع مدني حر، متعدّد مراكز القوى. أسس نظام 1952 لدولة استبدادية شبه شمولية، يتحكّم فيها هرم النظام السياسي، بمختلف مكونات الحياة السياسية، ويسعى إلى تقويض أسس التعدّدية السياسية في مهدها. وبادر النظام إلى تأميم الاقتصاد، مدمراً طبقة ملاك الأراضي في الستينيات، ولما تبنّى الرأسمالية في السبعينيات، لجأ إلى رأسماليةٍ مشوهة تابعة له، وتدور في فلكه. وبهذا دمر المكوّن الاقتصادي لظهور قوى علمانية ممولة من المجتمع وطبقاته العليا والوسطى. وحلّ نظام 1952 أيضاً الأحزاب السياسية، وحارب القوى الشيوعية واليسارية، وحوّل المتبقي منها إلى قوى شبه حكومية تدين له بالولاء. وقام، من خلال التحكم في موارد الدولة، بتحويل القوى الليبرالية جزءاً من منظومته الثقافية والسياسية، كحال بعض المثقفين الليبراليين الذي عملوا من داخل نظام حسني مبارك.
كما عمل النظام باستمرار لتدمير استقلالية المجتمع المدني، ومؤسسات الدولة الأكثر استقلالية، وفي مقدمتها مؤسسة القضاء، حيث تعرّض القضاة المستقلون للإقصاء منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر. وسعى خلفاؤه إلى التحكم المستمر في مؤسسة القضاء، مدمرين سعي روّاد الحركة القضائية المصرية إلى بث روح الحرية واحترام القانون والدستور. أضف إلى ذلك فشل سياسات النظام المصري التعليمية والاقتصادية، ما قوّض مقومات الطبقة المصرية الوسطى، التي تعدّ المعين الأهم للقوى العلمانية والسياسية المصرية المختلفة.
ثانياً: بسبب بنية النظام السياسي المصري السابقة، عانت القوى العلمانية المصرية من مشكلات هيكلية، كضعف التمويل، والملاحقة القانونية، والعجز عن العمل الجماهيري، حفاظاً على سلامتها وعلاقتها بالنظام ومصالحها الفئوية أحياناً. وهي عواملُ قوّضت إمكانات تلك القوى وقدراتها تباعاً، وتحولت إلى قيود داخلية صارمة، بعد عقود من تطبيقها. حتى أصبحت القوى العلمانية المصرية تتهم بالنخبوية، وبأنها نخب شبه رسمية، تعمل في أحيان كثيرة ضمن النظام المصري ذاته، وليس خارجه.
ثالثاً: يمثل صراع القوى العلمانية المصرية مع التيار الديني ستاراً رئيسياً، تخفي وراءه القوى العلمانية عيوبها الهيكلية من ناحية، وفرصة لتقرّب تلك القوى من النظام المصري من ناحية أخرى، كما حدث في يوليو/ تموز 2013. حيث ترفض تلك القوى، في أغلب الأحيان، الاعتراف بأن النظام المصري نفسه هو المسؤول عن مشكلاتها ومشكلات القوى الدينية سواء، فنظام عبد الناصر هو الذي حلّ الأحزاب، وسعى إلى تأميم الحركات الاشتراكية والشيوعية. ونظام السادات هو الذي فتح الباب للتيار الديني (الإخوان) لمنافسة القوى الاشتراكية، وأسس
رابعاً: تتبنّى بعض القوى العلمانية رؤى تسويفية للديمقراطية تبرر بها عجزها عن مواجهة النظام، وتحميله تبعات سياساته. حيث تتبنّى بعض مقولات النظام نفسه كعدم استعداد المصريين للديمقراطية، لأسباب مختلفة، كتراجع مستويات التعليم ومعدلات التنمية الاقتصادية، وكالحرب على الإرهاب، والأطماع الخارجية، والحفاظ على استقرار الدولة ومؤسساتها، متناسيةً أن سياسات النظام هي من يقوّض فرص التحول الديمقراطية والاستقرار والتنمية والمؤسساتية بلا توقف.
ولعل ما يدعو إلى التفاؤل، على الرغم من المشكلات العميقة والمركبة السابقة أن انتفاضة يناير، والسنوات التالية لها، كشفت عن صعود قيادات شابّة علمانية خارجة عن طوق القوى العلمانية التقليدية. قيادات شابّة ترفض التسويف، والنخبوية، والانشغال بالصراع الديني العلماني. وتحمّل النظام المسؤولية عن أزمات البلاد المختلفة، وتحاول العمل مع الجماهير. ولعل هذا يعني أننا أمام مخاض تاريخي عسير، قد يقود إلى صعود قوى علمانية جديدة، تتخطّى عيوب القوى العلمانية التقليدية، ولو بعد حين.