أزمة التعليم الثانوي في تونس

01 مايو 2018
+ الخط -
يعرف قطاع التعليم الثانوي في تونس أزمة غير مسبوقة بين وزارة التربية والنقابة العامة القطاعية التي تمثل الأساتذة، أزمة تحولت إلى معركة كسر عظام بين الطرفين، واحتدمت أكثر إثر اشتراط سلطة الإشراف تسليم الأساتذة، أعداد التلاميذ إلى الإدارة لمواصلة التفاوض مع نقابتهم، بالتوازي مع تلويحها بإيقاف صرف أجور المدرّسين.
وقد رفضت النقابة تسليم الأعداد قبل التوصّل إلى اتفاق مجز يستجيب إلى تطلعات المربين المتمثلة أساسا في تخفيض سن التقاعد وزيادة القيمة المالية للمنح والترقيات، بالإضافة إلى تحسين ظروف التدريس في المؤسسات التربوية.
ومع تعليق الأساتذة للدروس في كل الإعداديات والمعاهد الثانوية سبعة أيام تصاعدت وتيرة الاحتقان في القطاع التربوي، ما استدعى تدخل المركزية النقابية، أي صلب الاتحاد العام التونسي للشغل، ليتم التراجع عن تعليق الدروس مع الإبقاء على قرار حجب أعداد التلاميذ عن الإدارة ساري المفعول.
تخفي أزمة التعليم الثانوي التي لم تجد طريقها بعد الى الحل، جملة من الاختلافات الجوهرية والعميقة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، بشأن الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى للبلاد، حيث ترغب الحكومة في لجم المطلبية النقابية والضغط على قطاع الوظيفة العمومية من خلال عدم إقرار زيادات في الأجور وتسريح آلاف الموظفين في إطار برنامجي المغادرة الاختيارية والإحالة على التقاعد قبل بلوغ السن القانونية، بالإضافة إلى تجميد الانتدابات والتفويت في رأسمالية الدولة وعدد من مؤسساتها لصالح رأس المال الخاص، وذلك استجابة للشروط والإصلاحات الهيكلية التي يطالب بها الدائنون، وخصوصا صندوق النقد الدولي.
تنذر بوادر الخلاف العميق بين الطرفين الاجتماعي والحكومي بشبح أزمة أعمق قد تدخلها البلاد على الصعيد السياسي، إذ طالب الاتحاد العام التونسي للشغل أخيرا بضخ دماء جديدة في الحكومة، وقاد حملة عبّر خلالها عن تمسكه بعدم التفويت في المؤسسات العمومية واستعرض قدراته على التعبئة الشعبية في عدد من جهات البلاد.
يدرك رئيس الجمهورية وصاحب مبادرة وثيقة قرطاج أنّ صدام السلطة التنفيذية مع اتحاد الشغل قد يؤدي إلى نسف المسار الذي رسمته هذه المبادرة، ويعكر المناخ الاجتماعي العام ويعطي فرصة سانحة لأحزاب معارضة (الجبهة الشعبية) تطالب بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية سابقة لأوانها.
ويبدو أنّ رئيس الجمهورية، الباجي قايد السبسي، يستعد للتضحية بالحكومة الحالية، أو على الأقل رأسها، في إطار مبادرة سياسية جديدة، وهو ما لمّح إليه في كلمة مقتضبة أدلى بها على هامش افتتاحه مؤخرا لاجتماع الموقعين على وثيقة قرطاج، مفادها أنه 'لا يمكن الحديث عن وحدة وطنية من دون اتحادي الشغل والأعراف والمنظمات الوطنية الأخرى، مشددا على ضرورة اتسام العمل السياسي بمضمون اجتماعي".
تتجه تونس نحو الانتقال الديمقراطي تحت وطأة المديونية الأجنبية، عبر تجذير نهج اقتصاد السوق والتخلي رويدا عن دولة الرعاية الاجتماعية التي قامت مباشرة إثر الاستقلال على ركيزتي التعليم العمومي والصحة العمومية.
وعلى الرغم من تصحيح ثورة الياسمين المسار السياسي للبلاد ونجاحها في إرساء نواة ديمقراطية تقطع مع الحكم الفردي، فإن رقعة الهوة بين مكاسب دولة الاستقلال والنهج الذي تسير نحوه الجمهورية الثانية على الصعيدين، الاجتماعي والاقتصادي، في اتساع مضطرد.
تمثل أزمة التعليم في تونس واجهة لصراع عميق ومقنّع بين مدرسة السوق والمدرسة العمومية التي قامت عليها دولة الاستقلال، فهل تصمد المدرسة العمومية أمام الضربات الموجعة التي تتلقاها منذ ثمانينات القرن الماضي، أم أن مدرسة السوق ستنتصر في نهاية المطاف؟
B9EA8564-5B4A-4ABF-862D-DC7A8D0B6E1A
B9EA8564-5B4A-4ABF-862D-DC7A8D0B6E1A
غازي الدريدي
صحافي تونسي مهتم بالشأن السياسي والنقابي.
غازي الدريدي