تعيش أوروبا خلال ما تبقى من العام والعام المقبل مرحلة حاسمة في تاريخها السياسي والاقتصادي والمالي، وربما تدخل مفترق طرق حقيقي يحدد مستقبل بقاء أو فشل مشروع الوحدة الأوروبية برمته. فهنالك مجموعة من الانتخابات والاستفتاءات التي ستجرى في دول الاتحاد خلال الـ12 شهراً المقبلة ربما تكون قاصمة الظهر لمشروع الوحدة الأوروبية، الذي بدأ بحصاد الفوائد المالية والاقتصادية وربما ينتهي بسبب اختفائها.
في يونيو/ حزيران الماضي خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فيما عُرف باستفتاء "بريكست"، وربما تخرج فرنسا إذا فازت ماري لوبين التي تقود اليمين المتطرف في انتخابات أبريل/ نيسان المقبل.
يذكر أن ماري لوبين التي تتقدم في الانتخابات قد وعدت بإجراء استفتاء "فرانكيست"، إذا كسبت الانتخابات الفرنسية التي تظهر استفتاءات الرأي تقدمها على منافسيها بنسبة وصلت الأسبوع الماضي إلى 7 نقاط.
وتعد فرنسا ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا ومن أهم أعمدة السوق الأوروبية المشتركة. كما تشهد ألمانيا في سبتمبر/ أيلول المقبل الانتخابات العامة التي ستحدد مصير المستشارة الألمانية ميركل التي تعد حتى الآن العمود الفقري لتماسك المشروع الأوروبي وتقف سداً في وجه المد اليميني القوي الذي يدعمه حالياً فوز الرئيس اليميني دونالد ترامب.
وفي الرابع من ديسمبر/ كانون الأول المقبل سيجرى في إيطاليا استفتاء على "تعديل دستوري"، للحد من سلطات البرلمان الذي يسمى "سينت" وخفض عدد أعضائه من 315 عضواً إلى مئة عضو.
وعلى الرغم من أن الاستفتاء لا علاقة له بالحكومة الإيطالية، ولكن رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي تعهد بأنه سيستقيل في حال فشل الاستفتاء، الذي قال إنه ضروري لسير عمل الحكم في البلاد. وإذا فشل الاستفتاء، فلن يكون السبب سياسياً، بقدر ما سيكون اقتصادياً ومالياً، لأن إيطاليا تعاني من مجموعة إشكاليات اقتصادية، أهمها انخفاض الإنتاج الصناعي بنسبة 5.0% منذ دخولها اليورو في العام 1999.
كما تعاني ايطاليا التي يبلغ عدد سكانها 60.8 مليون نسمة وترتفع فيها نسبة البطالة 11.6% وتصل بين الشباب إلى 39.2% من موجات الهجرة المتصاعدة من شمال أفريقيا. كما ينخفض كذلك معدل النمو الاقتصادي إلى حوالي 0.3%. وذلك حسب احصائيات "يوروستات"، التي تقيس المؤشرات الاقتصادية في أوروبا.
ويبلغ حجم الاقتصاد الإيطالي 1814.76 مليار دولار، ولكنه يواجه معدلاً مرتفعاً من الديون كما أن بعض البنوك الإيطالية يمكن أن تنهار خلال العام المقبل وتحتاج إلى حزمة إنقاذ ضخمة.
وسيجرى في إسبانيا كذلك خلال العام المقبل استفتاء لتحديد مصير اقليم كاتلونيا الذي يطالب بعض مواطنيه بالانفصال.
اقــرأ أيضاً
وفي النمسا التي تجري فيها إعادة انتخابات، تواجه هي الأخرى مشاكل مالية واقتصادية وإن كانت أفضل حالاً من إيطاليا. وعلى الرغم من أن منصب الرئيس في النمسا منصب رمزي، إلا أن فوز مرشح حزب الحرية اليميني المتطرف ستكون له تداعيات على مجمل سياسات الدولة الاقتصادية والخارجية، لأنه سيشكل ضغطاً على الحكومة النمساوية لتنفيذ أجندة يمنية.
يذكر أن زعيم السابق لحزب "الخضر" ألكسندر فان دير بيلن فاز في المرحلة الثانية من انتخابات الرئاسة في النمسا في نهاية مايو/أيار الماضي بفارق ضئيل لا يفوق 0.6% على منافسه عن حزب الحرية اليميني نوربرت هوفر.
وتعد النمسا من أغنى دول الاتحاد الأوروبي ولكن توجد بها نقابات عمالية قوية وفاعلة سياسياً. وهذه النقابات إلى جانب أهل الريف تدعم بشدة المرشح اليميني وضد سياسات الهجرة إلى البلاد.
ويرى أساتذة اقتصاد وخبراء اجتماع في جامعة لندن وأكسفورد في دراسات نشرت أخيراً، أن المد اليميني العنصري الذي أسس للأحزاب القومية في أوروبا خلال السنوات القليلة الماضية ومكنها من كسب قوة جماهيرية، يعود إلى 5 عوامل رئيسية وهي:
أولاً: هشاشة اقتصاديات دول اليورو وارتفاع الضرائب وتزايد الإنفاق وانخفاض ميزانية بنود دولة الرفاه. وهو ما أدى إلى تذمر الطبقات الوسطى والطبقات الفقيرة.
ثانياً: الهجرات الكثيفة التي شهدتها أوروبا خلال السنوات الأخيرة، وهو ما أدى إلى مخاوف عرقية بانتهاء القوميات الأوروبية البيضاء. وأدت هذه المخاوف إلى صعود التيارات العنصرية التي كان وقودها كبار السن والطبقات الفقيرة التي شعرت أن المهاجرين نافسوها على مميزات دولة الرفاه، حيث نافسوهم على السكن المجاني أو شبه المجاني الذي كانوا يحصلون عليه ونافسوهم كذلك على الإعانات المالية التي يحصلون عليها وانخفضت قيمتها بسبب ضغوط الإنفاق الحكومي، وكذلك يتذمر مواطنو الطبقة الوسطى من منافسة المهاجرين لهم على الخدمات الصحية والتعليمية.
أما العامل الثالث: هنالك إحساس متزايد في منطقة اليورو أن مشروع الوحدة الأوروبية، أفاد ألمانيا وحول بقية الاقتصادات الأوروبية إلى حديقة خلفية مستهلكة للبضائع والخدمات الألمانية. كما أن هنالك تذمراً من التداعيات السالبة لعملة اليورو على الاقتصادات الضعيفة.
رابعاً: تحول الاستثمار والمال من الصناعة والزراعة إلى أسواق المال، وهو ما أدى إلى إفقار الريف وإثراء المدن. وهو ما خلق تبايناً كبيراً في النمو الاقتصادي، وهو ما أدى لاحقاً إلى غبن اجتماعي واقتصادي وكراهية لمبادئ العولمة والانفتاح التجاري والاقتصادي والمالي.
خامساً: فشل النخبة الأوروبية الحاكمة في الاستجابة لتظلمات العمال وأهل الريف والاستثمار بشكل كاف في السكن والخدمات.
مشروع الوحدة الأوروبية
أُنشئ مشروع الوحدة الأوروبية في العام 1957، كمشروع اقتصادي سياسي ضمن صراع الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي الذي تقوده أميركا وحلفاؤها في أوروبا والمعسكر الشيوعي الذي كان يقوده الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه في أوروبا الشرقية.
وحصد مواطنو دول الاتحاد الأوروبي طوال العقود الماضية حتى أزمة المال العالمية وما تلاها من أزمة اليورو فوائد اقتصادية جمة من المشروع الأوروبي، حيث ساهم في ارتفاع حجم وقيم تجارة السلع والخدمات بين الدول الأوروبية، بعد ما أزال الحواجز التجارية والتعرفة الجمركية وجعل أسعار السلع والخدمات رخيصة مقارنة بأسعارها في دول العالم الأخرى، كما مكن دولة الرفاه في الدول الأعضاء من ضمان مستوى مرتفع من الخدمات الصحية والتعليمية ومستويات المعيشة. وكانت هذه الفوائد من أركان دعم المواطن الأوروبي للمشروع سياسياً واجتماعياً.
وطوال سنوات الحرب الباردة تمتعت العديد من دول أوروبا الغربية بمستويات إنفاق ضئيل أو شبه منعدم على الدفاع، حيث كانت أميركا عبر حلف الناتو تقوم بمهمة الدفاع الأساسية عن أوروبا الرأسمالية في وجه "الدب الأحمر".
لكن في أعقاب نهاية الحرب الباردة وما تلاها من توسع في الاتحاد الأوروبي، حيث دخلت العديد من دول أوروبا الشرقية الفقيرة للاتحاد، تزايدت الأعباء المالية على دول الاتحاد الأوروبي.
وكانت النتيجة زيادة الضرائب والضغط على الخدمات ثم جاءت أزمة اليورو، حيث احتاجت أكثر من أربع دول لحزم إنقاذ مالية ضخمة من بينها ايرلندا والبرتغال واليونان وقبرص. ولايزال برنامج إنقاذ اليونان يرهق ميزانيات الدول الأوروبية.
اقــرأ أيضاً
يذكر أن ماري لوبين التي تتقدم في الانتخابات قد وعدت بإجراء استفتاء "فرانكيست"، إذا كسبت الانتخابات الفرنسية التي تظهر استفتاءات الرأي تقدمها على منافسيها بنسبة وصلت الأسبوع الماضي إلى 7 نقاط.
وتعد فرنسا ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا ومن أهم أعمدة السوق الأوروبية المشتركة. كما تشهد ألمانيا في سبتمبر/ أيلول المقبل الانتخابات العامة التي ستحدد مصير المستشارة الألمانية ميركل التي تعد حتى الآن العمود الفقري لتماسك المشروع الأوروبي وتقف سداً في وجه المد اليميني القوي الذي يدعمه حالياً فوز الرئيس اليميني دونالد ترامب.
وفي الرابع من ديسمبر/ كانون الأول المقبل سيجرى في إيطاليا استفتاء على "تعديل دستوري"، للحد من سلطات البرلمان الذي يسمى "سينت" وخفض عدد أعضائه من 315 عضواً إلى مئة عضو.
وعلى الرغم من أن الاستفتاء لا علاقة له بالحكومة الإيطالية، ولكن رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي تعهد بأنه سيستقيل في حال فشل الاستفتاء، الذي قال إنه ضروري لسير عمل الحكم في البلاد. وإذا فشل الاستفتاء، فلن يكون السبب سياسياً، بقدر ما سيكون اقتصادياً ومالياً، لأن إيطاليا تعاني من مجموعة إشكاليات اقتصادية، أهمها انخفاض الإنتاج الصناعي بنسبة 5.0% منذ دخولها اليورو في العام 1999.
كما تعاني ايطاليا التي يبلغ عدد سكانها 60.8 مليون نسمة وترتفع فيها نسبة البطالة 11.6% وتصل بين الشباب إلى 39.2% من موجات الهجرة المتصاعدة من شمال أفريقيا. كما ينخفض كذلك معدل النمو الاقتصادي إلى حوالي 0.3%. وذلك حسب احصائيات "يوروستات"، التي تقيس المؤشرات الاقتصادية في أوروبا.
ويبلغ حجم الاقتصاد الإيطالي 1814.76 مليار دولار، ولكنه يواجه معدلاً مرتفعاً من الديون كما أن بعض البنوك الإيطالية يمكن أن تنهار خلال العام المقبل وتحتاج إلى حزمة إنقاذ ضخمة.
وسيجرى في إسبانيا كذلك خلال العام المقبل استفتاء لتحديد مصير اقليم كاتلونيا الذي يطالب بعض مواطنيه بالانفصال.
وفي النمسا التي تجري فيها إعادة انتخابات، تواجه هي الأخرى مشاكل مالية واقتصادية وإن كانت أفضل حالاً من إيطاليا. وعلى الرغم من أن منصب الرئيس في النمسا منصب رمزي، إلا أن فوز مرشح حزب الحرية اليميني المتطرف ستكون له تداعيات على مجمل سياسات الدولة الاقتصادية والخارجية، لأنه سيشكل ضغطاً على الحكومة النمساوية لتنفيذ أجندة يمنية.
يذكر أن زعيم السابق لحزب "الخضر" ألكسندر فان دير بيلن فاز في المرحلة الثانية من انتخابات الرئاسة في النمسا في نهاية مايو/أيار الماضي بفارق ضئيل لا يفوق 0.6% على منافسه عن حزب الحرية اليميني نوربرت هوفر.
وتعد النمسا من أغنى دول الاتحاد الأوروبي ولكن توجد بها نقابات عمالية قوية وفاعلة سياسياً. وهذه النقابات إلى جانب أهل الريف تدعم بشدة المرشح اليميني وضد سياسات الهجرة إلى البلاد.
ويرى أساتذة اقتصاد وخبراء اجتماع في جامعة لندن وأكسفورد في دراسات نشرت أخيراً، أن المد اليميني العنصري الذي أسس للأحزاب القومية في أوروبا خلال السنوات القليلة الماضية ومكنها من كسب قوة جماهيرية، يعود إلى 5 عوامل رئيسية وهي:
أولاً: هشاشة اقتصاديات دول اليورو وارتفاع الضرائب وتزايد الإنفاق وانخفاض ميزانية بنود دولة الرفاه. وهو ما أدى إلى تذمر الطبقات الوسطى والطبقات الفقيرة.
ثانياً: الهجرات الكثيفة التي شهدتها أوروبا خلال السنوات الأخيرة، وهو ما أدى إلى مخاوف عرقية بانتهاء القوميات الأوروبية البيضاء. وأدت هذه المخاوف إلى صعود التيارات العنصرية التي كان وقودها كبار السن والطبقات الفقيرة التي شعرت أن المهاجرين نافسوها على مميزات دولة الرفاه، حيث نافسوهم على السكن المجاني أو شبه المجاني الذي كانوا يحصلون عليه ونافسوهم كذلك على الإعانات المالية التي يحصلون عليها وانخفضت قيمتها بسبب ضغوط الإنفاق الحكومي، وكذلك يتذمر مواطنو الطبقة الوسطى من منافسة المهاجرين لهم على الخدمات الصحية والتعليمية.
أما العامل الثالث: هنالك إحساس متزايد في منطقة اليورو أن مشروع الوحدة الأوروبية، أفاد ألمانيا وحول بقية الاقتصادات الأوروبية إلى حديقة خلفية مستهلكة للبضائع والخدمات الألمانية. كما أن هنالك تذمراً من التداعيات السالبة لعملة اليورو على الاقتصادات الضعيفة.
رابعاً: تحول الاستثمار والمال من الصناعة والزراعة إلى أسواق المال، وهو ما أدى إلى إفقار الريف وإثراء المدن. وهو ما خلق تبايناً كبيراً في النمو الاقتصادي، وهو ما أدى لاحقاً إلى غبن اجتماعي واقتصادي وكراهية لمبادئ العولمة والانفتاح التجاري والاقتصادي والمالي.
خامساً: فشل النخبة الأوروبية الحاكمة في الاستجابة لتظلمات العمال وأهل الريف والاستثمار بشكل كاف في السكن والخدمات.
مشروع الوحدة الأوروبية
أُنشئ مشروع الوحدة الأوروبية في العام 1957، كمشروع اقتصادي سياسي ضمن صراع الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي الذي تقوده أميركا وحلفاؤها في أوروبا والمعسكر الشيوعي الذي كان يقوده الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه في أوروبا الشرقية.
وحصد مواطنو دول الاتحاد الأوروبي طوال العقود الماضية حتى أزمة المال العالمية وما تلاها من أزمة اليورو فوائد اقتصادية جمة من المشروع الأوروبي، حيث ساهم في ارتفاع حجم وقيم تجارة السلع والخدمات بين الدول الأوروبية، بعد ما أزال الحواجز التجارية والتعرفة الجمركية وجعل أسعار السلع والخدمات رخيصة مقارنة بأسعارها في دول العالم الأخرى، كما مكن دولة الرفاه في الدول الأعضاء من ضمان مستوى مرتفع من الخدمات الصحية والتعليمية ومستويات المعيشة. وكانت هذه الفوائد من أركان دعم المواطن الأوروبي للمشروع سياسياً واجتماعياً.
وطوال سنوات الحرب الباردة تمتعت العديد من دول أوروبا الغربية بمستويات إنفاق ضئيل أو شبه منعدم على الدفاع، حيث كانت أميركا عبر حلف الناتو تقوم بمهمة الدفاع الأساسية عن أوروبا الرأسمالية في وجه "الدب الأحمر".
لكن في أعقاب نهاية الحرب الباردة وما تلاها من توسع في الاتحاد الأوروبي، حيث دخلت العديد من دول أوروبا الشرقية الفقيرة للاتحاد، تزايدت الأعباء المالية على دول الاتحاد الأوروبي.
وكانت النتيجة زيادة الضرائب والضغط على الخدمات ثم جاءت أزمة اليورو، حيث احتاجت أكثر من أربع دول لحزم إنقاذ مالية ضخمة من بينها ايرلندا والبرتغال واليونان وقبرص. ولايزال برنامج إنقاذ اليونان يرهق ميزانيات الدول الأوروبية.