أرض أخرى

16 نوفمبر 2015
مروان قصّاب باشي/ سورية
+ الخط -

1
يبدأ الشعر مظلماً مجهولاً حزيناً وخجولاً، لأنه يقف أمام غموض الكون وأمام حركة الإنسان في سيره جهة نور الشمس الخلاّق. لذلك لم يكن أمام أرتال أسلحة القمع وهي تتصدى لبحث الإنسان عن الحرية، إلا أن تتصدى للشعر أيضاً لأن الشعر هو ما يُخصب الحركة بماء الروح ويكتب خلودها، هو ما يمهد الدروب ويرسم الرؤى، هو ما يزرع الورد وينير الشموع على قبور شهدائها.

انطلاقاً من ذلك أيضاً ندرك أن الشعر يحدّد لغته وأحلامه جيلاً بعد جيل، يضع خيال الإنسان أُفقاً مفتوحاً للإبحار به الى مواطن المجهول، دافعاً الإنسان إلى العبور جهة الضفاف الأخرى، جهة القلب، محتضناً كل ما هو جذري ونبيل وعميق في التراب.

كشعراء ظل بحثنا عن الشعر، بحثاً عن أرض لا تطأها أقدامنا حتى نبدأ التفكير ثانية نحو رحيل أبعد عن مكان وصولنا وأبعد عن زمن عيشنا. الشعر لغة الروح المفقودة في حنينها إلى الجذر الذي ارتحلت عنه نحو أرض أخرى.

هذا التجاذب والتنافر في آن بين الجذر وبين المجهول، هي رحلة الشاعر المكسوة دوماً بثيمات الحنين والفراق والألم والترحال. هي لذلك حقاً أرض جديدة لشعر جديد لم نكتبه بعد، وما يذهب بنا الى المستقبل الأبعد ويشدّنا في آن إلى الماضي الأبعد أيضاً، يأتي عبر اكتشاف حاضر الإنسان في قلقه وضياعه وأمله في أن يحتفظ بالأرض بعيداً عن الكارثة التي تجرّها إليها مؤسسات قمع الانسان شرقاً وغرباً.


2
أن يكون الشعر مسكناً للشاعر وبيتاً أزلياً يقيه من السقوط في اليومي والضياع في الحياة كفرد طالب للعيش، هو ما يدعوه هايدغر: الوجود الأصيل في الحياة، أو الحديث عن اتّساع المنفى: الوطن كمنفى للشاعر، اللغة كمنفى للشاعر، الحياة كمنفى للشاعر.

أن يخلق الشاعر منفياً، ويظل دوماً يحمل على كاهله عبء اغترابه وصمته ووجعه، وحيد في الأرض. الشعراء هؤلاء جاءت قصائدهم في الصمت ورحلوا في الصمت أيضاً. دون ضجيج يخلق الشاعر إنجازه الخاص، يعيش وفق علاقة سرية يعقدها مع الكلمات والأشياء، يعيش الشاعر متأملاً حركتها ودبيبها على الأرض، الخطوة الأولى إذن هي محاولة العيش كشاعر، الشاعر المفتون بما يهرب الناس منه، المفتون بالعزلة وما تضفيه على الكتابة من ثراء وجداني عميق بالعشق الذي قد يصل به إلى الجنون، بالوطن والحرية التي يتقبّل الشاعر مصير حبه لهما حتى لو أفضى ذلك به إلى الموت.


3
انطلاقاً من تجربة مضت وترسّخت في الجذر، أو اختبأت في المنبت، فقط نبحث عن آفاق قول جديد. لذلك يأتي الشاعر من تراث مضى، ولكن ليستشرف الأفق القادم، أو ما نحن عليه الآن؛ إذ لا شعر يأتي من الفراغ، لا بد من مرجعية يقف عليها الشاعر أو نخطو بها نحو الضفة الأخرى.. ضفة الشعر.

إلا أننا بالطبع نبدأ الكتابة دون أن نعي جذرها ومصدرها؛ فهي تأتي من الجهة المجهولة من القلب. وهي عن غيرها لا تحظى في البداية من صاحبها بذلك الإهتمام الواعي، إذ تباغته قبل أن يباغتها وتختاره قبل أن يختارها. تستمر وحيدة معه أثناء كتابته لها وبعد تمامها.

هكذا بدأت الكتابة الشعرية على التجربة، وما تضفيه من دافع قوي لإفراغ الشحنة دون تدخّل ذاتي مسبق مقصود، إذ ذاك كان من الصعب فصل العاطفة عما نكتب، أو الحدث عما نكتب، والانعكاس المباشر لما يشكله الحدث علينا خاصة في خضم التجربة السياسية العربية عامة.

مع الزمن ومروره نكون فقط قادرين على المضي أبعد من الذات ومحيط تأثيراتها... بل حتى ونحن نكتب مشكّلين تجارب جديدة في الكتابة، قد لا ندرك ما نحن قائمين عليه، ولن نقطف وردة الشعر حتى والزمن يقطف وردة العمر، قدر ما نقترب منه يبتعد الشعر عنا، ويبقى طريقنا إليه كمن يسير في درب لا نهاية له، درب كلما أشعل شاعر به شمعة ازداد ظلاماً، وكلما ازداد به يقينا ازداد شكاً. إنه عالم المجاهل الغامضة التي لا يعرف التاريخ لها بداية وبالطبع لن يجد لها نهاية؛ لأنه لن يصل إلى معلوم ما إلا لكي يبدأ مجهول آخر، المجهول هذا هو البؤرة والجوهر والتجدد، هو الشعر.


* شاعر من عُمان


اقرأ أيضاً: سماء عيسى: منفى من الأشجار الصغيرة

المساهمون