09 نوفمبر 2024
أردنٌ متجدّد يرتسم في الأفق
أعاد حراك الشارع الأردني، ابتداء من يوم 30 مايو/ أيار الماضي، أجواء العام 1989، حين خرجت الجموع للمطالبة بحقوقها الدستورية، بيد أن نسخة ذلك العام تجاوزت المطالبة بالمشاركة السياسية وإطلاق الحريات، إلى الدعوة إلى إنقاذ المواطن من الكلفة الثقيلة لـ" الإصلاحات" الاقتصادية، والدعوة إلى مكافحة الفساد بصورة ملموسة. وقد وصلت الرسالة بسرعة إلى صانع القرار الذي أبدى تفهماً وجدانياً عاليا لهذه المطالب، ولمشروعية تحرّك الجيل الشاب. وقد جاءت إقالة حكومة هاني الملقي، وتكليف عمر الرزاز بترؤس حكومةٍ جديدةٍ، متماشيةٍ من حيث المبدأ مع نزعة التغيير التي يجهر بها جيلٌ شاب من الطبقة الوسطى، غير مسيسٍ بالمعنى التقليدي، لكنه يمتلك حِسّاً عالياً ازاء العدالة الاجتماعية، وطموحاً لا يُحد إلى النهوض الوطني و"الحضاري" (شبّان من المحتجين تحدثوا عن نموذج سنغافورة الذي يطمحون إليه).
وبهذا، فإن الحراك الجديد فاجأ، في حجمه وزخمه، الجميع، وكان من المثير للاهتمام أن النقابة التي أطلقت دعوات الاعتصام والإضراب هي نقابة المهندسين ( تضم نحو 143 ألف مهندس منتسب)، وهذه النقابة شهدت، قبل نحو شهر، صعود قيادة جديدة لها ليست ذات انتماء حزبي، ممثلة بالنقيب أحمد سمارة الزعبي الذي تمكّن، مع قائمته، من هزيمة قائمة إسلامية، بعدما سيطر الإسلاميون على النقابة الكبرى في البلاد عقودا طويلة.
امتلك الحراك أجندة ملموسة، وهي بالقطع وطنية داخلية لا دور للخارج فيها، ولا محل فيها
للتعصب الأيديولوجي والتخندق السياسي. وبانتظار أن يُسهم تشكيل حكومةٍ جديدةٍ بالإيذان ببدء نهج جديد، فالرئيس المكلف خبير اقتصادي وإداري غير نخبوي، إصلاحي عُرف بتفاعله مع عموم الناس واحترامه لهم ("قريب من الشعب، خاصة الشباب منهم" كما ورد في كتاب التكليف الملكي). ولا يُحسب على مراكز قوى، والمهمة الملقاة على عاتقه ثقيلة وجليلة، وتتمحور حول المساهمة في الانتقال إلى حقبة جديدة من الديمقراطية الملموسة، والعدالة الاجتماعية الحقة، والولاية الحكومية الواضحة غير المنقوصة التي يتحمل فيها الجميع الأعباء، كلٌ حسب طاقته وموارده. وينعم فيها الجميع بثمرات تنميةٍ متوازنةٍ شاملةٍ وسط صعوباتٍ اقتصاديةٍ وضعف في النمو، تتسبب فيه ظروف خارجية تتعلق بالإقليم، وظروف داخلية تتصل بالجسم البيروقراطي، وبوضعٍ إداري سياسي، تتداخل فيه السلطات ومراكز القرار.
وعلى الرغم من أن الحراك جاء وليد الصعوبات المعيشية، وألقى ضوءا باهرا عليها، فقد أعاد إلى المجتمع ثقته بنفسه وبقدراته، وحيث أدرك الأردنيون مدى حيوية الجوامع والمشتركات الوطنية بينهم وعمقها، وهي التي كانت تحجبها المشاجرات في الجامعات ونزاعات الملاعب الرياضية والاحتكاكات الأهلية في المناطق الطرفية. ولهذا، ثمة اتفاق على أن الحراك قد ارتقى بالمفاهيم، وأطلق مخزونا مدنياً كان حبيساً. وبينما يفهم الجميع بقلوبهم ماذا حدث في قلب العاصمة، وساحات مدن أخرى، في النصف الثاني من شهر رمضان، فإن العقول اعترتها الدهشة والحيرة. إزاء التنظيم المحكم، على الرغم من عفويته، وسلمية الحراك ومدنيته، والتقاء بواعث الحراك ودوافعه الوطنية الذاتية، حول إصلاح شامل يتجدّد فيه النظام السياسي، ويتبلور فيه عقد اجتماعي بين الحكم وعموم المواطنين. وقد فعل الحراك حسنا (ومعه مجلس النقباء) بإدراكه أهمية تشكيل حكومة نوعية جديدة، وضبط سقف المطالب وعدم الاستسلام لضغط الانفعالات الآنية التي كان يمكن أن تعوق المهمة الإنقاذية المتوخاة للرئيس المكلف. هذا من دون التقليل من هواجس إعاقة تشكيل الحكومة من قوى الشد العكسي التي تنشد إصلاحا جزئياً ومظهرياً فحسب. وبهذا، فقد أمكن احتواء المخاوف من معوقاتٍ تبرز على يسار الرئيس المكلف، وكذلك عن يمينه وتجنب زجّ البلاد وأهلها في فراغٍ حكوميٍّ لا تُحمد عقباه. على الرغم من أن عمليات الإعاقة قد تستمر حتى بعد تشكيل الحكومة المنتظرة، عبر التشهير والتبخيس، من مواقع اليسار واليمين معا، بالتقليل مثلا من أهمية سحب مشروع قانون الدخل الذي تعهد به الرئيس المكلف، فور أداء حكومته المنتظرة اليمين. علماً أنه من اللافت حقاً أن مجلس ممثلي الشعب (النواب) بدا مرتبكاً، على الرغم من تحرّكاتٍ جرت في داخله، وكان مجلس الأعيان (65 عضواً يعينهم الملك) هو المبادر إلى وضع سيناريوهات الحل، وقد ظل المجلس النيابي في مرمى المحتجين الذين طالبوا بحله. وقد جاء الالتزام العلني للرئيس المكلف ليجنب المجلس النيابي تجرع الكأس المرّة لمشروع القانون، وتفادي الأصعب وهو حل
المجلس، بعد أن أصبح مشروع قانون ضريبة الدخل خارج المجلس، وبين أيدي التشكيل الحكومي المنتظر، وحيث وعد الرئيس المكلف بحوار وطني شامل، يتعدّى مشروع القانون إلى القضايا المحورية التي تشغل بال المواطن وتمسّ حياته. والمهم هو تحرير الحوار الوطني المأمول من أي ضغوط تتعلق بصيغ مسبقة للإصلاحات.
لقد توحدت في هذا الحراك أصوات الشعب والمجتمع من العاصمة عمّان الى بقية المدن والأطراف، في توحّدٍ لا شبيه له إلا بأجواء العام 1989، وقد نجح الحراك الجديد في اعتناق توجهاتٍ وطنيةٍ جامعة، والتحرّر من الوصاية والتوجيه الحزبي، وقوى البيروقراط، ومفاعيل الصوت الانتخابي الواحد (أحزاب شاركت لاحقاً في الحراك بعد انطلاقه، وبصورةٍ غير رسمية: ضمنية، وليست صريحة).
وإذ حقق الحراك غايته المعلنة، وهدأت موجاته المتلاطمة، فلا شك خلالئذ أن أردناً جديداً، أو متجدّداً، يرتسم في الأفق، تؤدي فيه الطبقة الوسطى (الجسم المهني للنقابات) مع شرائح الشبان المتعطلين، والمسدودة أمامهم أبواب الفرص، دوراً رائداً يستجيب لمصالح الفقراء والمهمشين، ويتبادل التفاعل معها، بعيدا عن كوابح الأطر التقليدية وفئويتها التي أثمرت عزلة للأحزاب، وتباعداً بين مكونات المجتمع المثقلة بأعباء مشتركة، والتي وجدت، هذه المرة، مُتنفساً لها في حراكٍ جماعيٍّ مثير للإعجاب، ظلت تحِفّ به توقعات إيجابية، إذ بذر بذوراً طيبة، وأثبت أن الشأن العام يخصّ سائر فئات المجتمع وشرائحه، وأن المشاركة في صنع القرارات المصيرية ليست بالضرورة قرينة الاحتراف السياسي لقوى حزبية أو سلطوية أو نيابية، بل هي مُلكٌ للقوى الحيّة الشبابية والنقابية التي تعكس ضميرا جمعياً، وتستلهم أفضل ما في التراث الوطني للمجتمع، مع عقد الصلات مع إيقاع العصر ومطامحه.
وبهذا، فإن الحراك الجديد فاجأ، في حجمه وزخمه، الجميع، وكان من المثير للاهتمام أن النقابة التي أطلقت دعوات الاعتصام والإضراب هي نقابة المهندسين ( تضم نحو 143 ألف مهندس منتسب)، وهذه النقابة شهدت، قبل نحو شهر، صعود قيادة جديدة لها ليست ذات انتماء حزبي، ممثلة بالنقيب أحمد سمارة الزعبي الذي تمكّن، مع قائمته، من هزيمة قائمة إسلامية، بعدما سيطر الإسلاميون على النقابة الكبرى في البلاد عقودا طويلة.
امتلك الحراك أجندة ملموسة، وهي بالقطع وطنية داخلية لا دور للخارج فيها، ولا محل فيها
وعلى الرغم من أن الحراك جاء وليد الصعوبات المعيشية، وألقى ضوءا باهرا عليها، فقد أعاد إلى المجتمع ثقته بنفسه وبقدراته، وحيث أدرك الأردنيون مدى حيوية الجوامع والمشتركات الوطنية بينهم وعمقها، وهي التي كانت تحجبها المشاجرات في الجامعات ونزاعات الملاعب الرياضية والاحتكاكات الأهلية في المناطق الطرفية. ولهذا، ثمة اتفاق على أن الحراك قد ارتقى بالمفاهيم، وأطلق مخزونا مدنياً كان حبيساً. وبينما يفهم الجميع بقلوبهم ماذا حدث في قلب العاصمة، وساحات مدن أخرى، في النصف الثاني من شهر رمضان، فإن العقول اعترتها الدهشة والحيرة. إزاء التنظيم المحكم، على الرغم من عفويته، وسلمية الحراك ومدنيته، والتقاء بواعث الحراك ودوافعه الوطنية الذاتية، حول إصلاح شامل يتجدّد فيه النظام السياسي، ويتبلور فيه عقد اجتماعي بين الحكم وعموم المواطنين. وقد فعل الحراك حسنا (ومعه مجلس النقباء) بإدراكه أهمية تشكيل حكومة نوعية جديدة، وضبط سقف المطالب وعدم الاستسلام لضغط الانفعالات الآنية التي كان يمكن أن تعوق المهمة الإنقاذية المتوخاة للرئيس المكلف. هذا من دون التقليل من هواجس إعاقة تشكيل الحكومة من قوى الشد العكسي التي تنشد إصلاحا جزئياً ومظهرياً فحسب. وبهذا، فقد أمكن احتواء المخاوف من معوقاتٍ تبرز على يسار الرئيس المكلف، وكذلك عن يمينه وتجنب زجّ البلاد وأهلها في فراغٍ حكوميٍّ لا تُحمد عقباه. على الرغم من أن عمليات الإعاقة قد تستمر حتى بعد تشكيل الحكومة المنتظرة، عبر التشهير والتبخيس، من مواقع اليسار واليمين معا، بالتقليل مثلا من أهمية سحب مشروع قانون الدخل الذي تعهد به الرئيس المكلف، فور أداء حكومته المنتظرة اليمين. علماً أنه من اللافت حقاً أن مجلس ممثلي الشعب (النواب) بدا مرتبكاً، على الرغم من تحرّكاتٍ جرت في داخله، وكان مجلس الأعيان (65 عضواً يعينهم الملك) هو المبادر إلى وضع سيناريوهات الحل، وقد ظل المجلس النيابي في مرمى المحتجين الذين طالبوا بحله. وقد جاء الالتزام العلني للرئيس المكلف ليجنب المجلس النيابي تجرع الكأس المرّة لمشروع القانون، وتفادي الأصعب وهو حل
لقد توحدت في هذا الحراك أصوات الشعب والمجتمع من العاصمة عمّان الى بقية المدن والأطراف، في توحّدٍ لا شبيه له إلا بأجواء العام 1989، وقد نجح الحراك الجديد في اعتناق توجهاتٍ وطنيةٍ جامعة، والتحرّر من الوصاية والتوجيه الحزبي، وقوى البيروقراط، ومفاعيل الصوت الانتخابي الواحد (أحزاب شاركت لاحقاً في الحراك بعد انطلاقه، وبصورةٍ غير رسمية: ضمنية، وليست صريحة).
وإذ حقق الحراك غايته المعلنة، وهدأت موجاته المتلاطمة، فلا شك خلالئذ أن أردناً جديداً، أو متجدّداً، يرتسم في الأفق، تؤدي فيه الطبقة الوسطى (الجسم المهني للنقابات) مع شرائح الشبان المتعطلين، والمسدودة أمامهم أبواب الفرص، دوراً رائداً يستجيب لمصالح الفقراء والمهمشين، ويتبادل التفاعل معها، بعيدا عن كوابح الأطر التقليدية وفئويتها التي أثمرت عزلة للأحزاب، وتباعداً بين مكونات المجتمع المثقلة بأعباء مشتركة، والتي وجدت، هذه المرة، مُتنفساً لها في حراكٍ جماعيٍّ مثير للإعجاب، ظلت تحِفّ به توقعات إيجابية، إذ بذر بذوراً طيبة، وأثبت أن الشأن العام يخصّ سائر فئات المجتمع وشرائحه، وأن المشاركة في صنع القرارات المصيرية ليست بالضرورة قرينة الاحتراف السياسي لقوى حزبية أو سلطوية أو نيابية، بل هي مُلكٌ للقوى الحيّة الشبابية والنقابية التي تعكس ضميرا جمعياً، وتستلهم أفضل ما في التراث الوطني للمجتمع، مع عقد الصلات مع إيقاع العصر ومطامحه.