قبل سبعة عشر عاماً، اضطرت فتحية الخوالدة إلى مغادرة محافظة الطفيلة (180 كيلومتراً جنوب عمّان) إلى العمل في أحد التجمعات الصناعية في العاصمة. كان سكنها مؤمّناً هناك خلال أيام العمل، لتعود في نهاية الأسبوع إلى محافظتها التي تندر فيها فرص العمل.
عمل فتحية هذا يُعَدّ خروجاً على العادات والتقاليد في مجتمع الأردن المحافظ الذي يعارض عمل النساء، وإن كان ذلك بالقرب من مكان سكنهنّ. فكيف الحال إن كان بعيداً ويتطلب المبيت خارج المنزل؟ لكنّ المرأة تعيد موافقة عائلتها على ذلك إلى "صعوبة أوضاعنا الاقتصادية". في ذلك الوقت، لم تعثر فتحية على فرصة عمل في منطقتها، إذ تُعدّ محافظة الطفيلة بحسب التقارير الرسمية أكثر محافظات المملكة فقراً وانعداماً للتنمية. تقول: "الرجال لا يعثرون على أشغال هنا، فكيف النساء؟ بالتالي، لم يكن أمامي في ذلك الحين غير العمل في عمّان".
قبل ستّة أعوام، تركت فتحية عملها في عمّان والتحقت بآخر في الطفيلة وفّرته لها الجمعية الملكية لحماية الطبيعة، من ضمن مشاريعها في محميّة ضانا الطبيعية. هنا تعمل في صناعة الحلي التقليدية وتساعد أحياناً في صناعة المربيات. تقول إنّ عملها الجديد أحدث فرقاً في حياتها، "فالشغل القريب من البيت أراحني من المواصلات كذلك بعدما تزوّجت وأنجبت، بقيت قريبة من زوجي وأولادي".
تضمّ مشاغل التنمية الاقتصادية الاجتماعية داخل المحمية التي زارتها "العربي الجديد" أربعة مشاغل وهي مشغل الحلي، ومشغل الأعشاب وتجفيف الفواكه، ومشغل الشمع، ومشغل الجلود. وتوفّر تلك المشاغل 11 فرصة عمل للنساء، جميعهنّ من سكان المحافظة وغالبيتهنّ هنّ المعيلات الوحيدات لأسرهنّ سواءً أكنّ متزوجات أم لا. وتلتزم الجمعية الملكية بتشغيل السكان المحليين لخدمة المجتمع المحلي وتمكينهم، مع التركيز على استقطاب الإناث بحسب ما يؤكد مدير المشاريع في المحمية إسحق الخوالدة.
رائدة نعانعة بدأت تعمل في مشغل صناعة الحلي قبل 17 عاماً، لتكون بذلك أقدم الملتحقات بالعمل، وهو ما أهّلها لتصبح مديرة للمشغل. تخبر أنّها عندما تقدّمت للعمل خضعت لدورة تدريبية على مدى ستة أشهر على يد خبراء"، مشيرة إلى أنّ "البداية كانت صعبة على الصعيد الاجتماعي وليس الحرفي". تضيف أنّه "قبل إطلاق المشروع، لم تكن تتوفر فرص عمل، وكانت ثقافة العيب هي المسيطرة. ممنوع على المرأة أن تعمل وممنوع عليها ذلك في مكان بعيد". لكنّ الأمور راحت تتغيّر مع الوقت، وأصبح عملهنّ مقبولاً اجتماعياً. والأهم بالنسبة إليها هو أنّ "العمل ينمّي شخصية المرأة ويمكّنها اقتصادياً لتساعد أسرتها في الدخل".
في داخل المشغل، كانت النساء منهمكات في العمل، في حين عُرضت منتجاتهنّ التي تحاكي طبيعة المنطقة، وقد استوحيت من النباتات والحيوانات التي تعيش في المحميّة وأشهرها الوعل الجبلي (البدن). يُذكر أنّه منذ افتتاح المشغل في عام 1997، عملت فيه 33 امرأة، أمّا اليوم فيقتصر عددهنّ على ستّ نساء فقط. وتشير نعانعة إلى أنّ "عاملات كثيرات كنّ يضطررنَ إلى ترك العمل لأسباب اجتماعية، خصوصاً بعد ازدياد مسؤولياتهنّ نتيجة الزواج والإنجاب".
في مشغل الأعشاب والمربيات، كانت غازية الخصبة منشغلة في توضيب الأعشاب الطبيّة وتغليفها. هي تعمل فيه منذ افتتاحه، "في البداية من أجل مساعدة أهلي. واليوم أشتغل لأنّني المعيلة الوحيدة لأسرتي بعدما تزوّجت". وتتذكر البداية الصعبة، "إذ رفض أهلي أن أعمل. وعندما رحت أشتغل، صار أهل المنطقة ينتقدون كيفيّة موافقة أهلي على ذلك". وهم كانوا قد وافقوا في النهاية نتيجة أوضاعهم الاقتصادية الصعبة ولقرب العمل من مكان السكن. وتتذكر غازية كيف أن "سيّدتين متقدّمتين في السنّ من سكان المنطقة حملتا على عاتقهما إقناع الأسر بعمل الفتيات. وعندما وصلنا إلى المشغل درّبتانا على تجفيف الأعشاب وصناعة المربيات". وتكريماً لهما ولدورهما في تغيير السائد، يمكن لقاصد المشغل أن يرى هناك صورة لهما توثّق بداية العمل.
وتلك المشاريع، بحسب إسحق الخوالدة، "لا توفّر فرص عمل للسكان المحليين فحسب، بل تساهم في تأمين دخل لغير العاملين فيها من خلال شراء مستلزمات الإنتاج الأولية من الأسواق المحلية. بذلك تصبح مدخلاً إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتغيير الأنماط والثقافة السائدة داخل المجتمع".
تجدر الإشارة إلى أنّ محميّة ضانا أنشئت في عام 1989، وهي تمتد على مساحة تقدّر بنحو 300 كيلومتر مربّع وتُعَدّ واحدة من بين ستّ محميّات في مختلف مناطق المملكة والأكبر بينها والأكثر تنوعاً لجهة الأنظمة البيئية والأنماط النباتية والحيوانية.