أربيل مدينة تتلألأ بالأضواء بعد الغبار و"داعش"

22 أكتوبر 2014
حديقة شار وسوق القيصري في هولير "أربيل" (jane sweeny/Getty)
+ الخط -

قبل أسابيع ، كان "داعش" على أبواب أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، التي هي أيضاً (ويا للمفارقة) "عاصمة السياحة العربية" لعام 2014، بعدما تحولت في سنوات قليلة من بلدة جبلية شبه منكوبة وخربة، إلى واحدة من المدن المتلألئة بالأضواء والعمران والبحبوحة، كما هي حال مدن النفط والثروات والاستثمارات، البازغة في آسيا والخليج.

كان "داعش" على وشك الانقضاض على مدينة الأحلام الكردية، مما أيقظ كوابيس حملات "الأنفال" القديمة، وجحيم الاجتياحات العسكرية الآتية من الجنوب والصحراء، التي غالباً ما هددت شعب الجبال بالفناء والهجرات الجماعية والخراب العميم. لقد ارتجف كرد العراق وتركيا وسورية وإيران، عندما قارب الخطر "عاصمة" النجاح الكردي ومفخرته، قلب التجربة "الاستقلالية" الأولى للكرد في عصرهم الحديث.

من الغبار إلى المطار
خلال سنوات قليلة، شهدنا "انبثاق" حاضرة عصرية، من قلب مدينة الغبار والنعاس ورماد الحروب وغيبوبة التاريخ. في زمن قياسي، انتقلت تلك الأرض الجبلية النائية، قارسة البرودة شتاء والقائظة حرارة صيفاً، من كونها خليطاً عمرانيّاً من طين القرن التاسع عشر وإسمنت الثكنات العسكرية للزمن "البعثي"، إلى ألمنيوم وزجاج أبراج المكاتب والسكن و"المولات".
عندما وصلنا إلى إقليم كردستان العراق لأول مرة، عام 2006، قلنا: "بات لمدينة أربيل مطارها الدولي، وبات لديها أيضاً فندق "شيراتون" وسيارات تاكسي خاصة بها، ومصرف مركزي، بنوك خاصة تفتتح فروعها في أنحاء عاصمة الإقليم، وفي مدن كردستان الأخرى. حينها كان هناك أربع فضائيات تلفزيونية وخمس محطات تلفزيونية محلية (أرضية)، وثماني إذاعات وجريدة يومية واحدة وعشرات الجرائد والمجلات الأسبوعية.

قلنا وقتها: "هذا ما يكفي هنا لقيام دولة. ما عاد الأمر يستلزم جيشاً قويّاً ولا مصانع ضخمة ولا ملاحم تاريخية". ما أن وصلنا إلى المطار الصغير، حتى أنبأتنا الإشارات المكتوبة بالكردية والعلم الكردي الذي يرفرف وحده على السارية، أننا في أرض الكرد الفخورين بكيانهم السياسي، المتوطد يوماً بعد يوم ضمن فدرالية عراقية مضطربة ومجهولة المستقبل.

لم تتوقف أربيل عند ما أنجزته آنذاك، فالمدينة المدللة عند حكومة الإقليم، سرعان ما شيدت مطاراً دوليّاً واسعاً عام 2011، فيما توسعة المدينة نفسها تمددت عمراناً ثلاثة أضعاف على ما كانت عليه قبل 8 سنوات فقط، وتزايد سكانها من حوالي مليون نسمة إلى مليونين، وتم بناء مدن سكنية مرفهة، تلبي حاجات طبقة وسطى وغنية بالكاد كانت موجودة من قبل، وها هي باتت شريحة اجتماعية مدينية مسيطرة على مشاهد الحياة اليومية.

قبل سنوات، كان الكرد في استقبالنا، نحن الكتّاب والفنانين والصحافيين العرب، وهم مزهوّون بفكرة أننا أتينا لنشهد على نجاحهم في تأمين استقرار مدنهم وازدهارها، وأن أرضهم صارت هي الفسحة العراقية الوحيدة الممكنة لإقامة مهرجان ثقافي عربي ـ عراقي من دون مخاطر تقريباً، فمدينتهم أربيل هي المكان العراقي المتاح لأن يلتقي فيه مثقفو عراق المهجر (الخارج) بمثقفي عراق الإقامة (الداخل).

جامعات وحدائق وشركات
عاصمة الكيان الكردستاني، كان لديها خمس جامعات لعموم كردستان، وقد أناطت بشركة إنجليزية مسؤولية "التخطيط المديني"، حيث ورشة إعادة الإعمار والبناء ما يُذكّر بالمشروع اللبناني في التسعينيات، لكن من غير تعثر ومن دون عوائق سياسية. ولم نصدق في زيارتنا الثانية، أواخر عام 2009 أنها أربيل نفسها هذه التي نتنزه فيها، إذ اختفت السوق المتهالكة الفقيرة واختفت الطريق الترابية واختفى الرجال البائسون المقرفصون على قارعة الطريق يبيعون اللبن المغطى بالذباب.

اختفى كل ما كان يدل على الفقر والإهمال والتأخر التاريخي، وحلت محله تلك الحديقة الباذخة بنوافيرها، والمحاطة بمراكز التسوق و"المولات" المتخمة بالبضائع "اللوكس" و"السينييه" والعلامات التجارية الأغلى في العالم. لم نصدق أن أربيل هذه باتت هكذا، مطرحاً للشباب والأناقة والعائلات الهانئة والفضاء المفتوح على تزجية الوقت والتنزه، كما للأعمال والاستثمارات والحياة المعاصرة.

أول ما لمحناه في أربيل، إعماراً أو تطويراً، هو تلك الحدائق العامة الأربع الكبيرة، فيما العمل جار لإنشاء غابة مترامية تحل مكان القفر الواسع الذي له في الذاكرة الكردية معاني الشر والموت لأنه كان أرض معسكرات صدام حسين. غابة للترفيه والنزهات، غابة للتجميل البيئي في المكان عينه الذي كان مصدراً للموت والرعب.

الشغف بالحدائق والتشجير دفع الحكومة المحلية والبلدية إلى التخطيط لحديقتين كبيرتين إضافيتين. كما لو أن المساحات الخضراء التزيينية في هذه البلاد الزراعية، أولوية لمشروع الإعمار وعنوان بارز في مخطط البناء. إنها الصورة التي يودها الكرد لمدينتهم وعاصمتهم: مدينة مشجرة، كثيرة الحدائق والزهور، لشعب شغوف بألوان الربيع وجماله.

إقبال على الحياة
في زيارتنا الأولى عام 2006، قال لنا صاحب فندق "أربيل"، هو رجل أعمال أرمني ـ عراقي، لبناني الإقامة، أنشأ أول فندق (خمسة نجوم)، وهو مقاول في مشروع إعمار 80 ألف فيلا (ثمانين ألفاً) وعشرة أبراج سكنية، إن حجم الأعمال العقارية في كردستان يقدر بمليارات الدولارات، وأن البنية التحتية التي ستنشأ ستحول أربيل الى مدينة جديدة بالكامل. وأربيل التي تفتقر الآن لأماكن الترفيه والسياحة ستصبح مدينة سياحية من الطراز الأول مع سلسلة من الفنادق الفخمة والمطاعم والنوادي والملاهي: "المجتمع الكردي الجبلي والريفي... يتقبل بسهولة مقتضيات الانفتاح والاقتصاد الحر، خصوصاً وأن شريحة الطبقة الوسطى تتسع في زمن قياسي".

الكل هنا، لديهم جملة واحدة يرددونها: "بعد خمس سنوات أربيل ستصير حلوة". والكثير منهم يغامر ويقول "بل ستكون مثل دبي"..، هكذا، مستعجلون للخروج من ذاكرة الأنفال ومذبحة حلبجة. ذاكرة كادت "داعش" أن تكررها وتطيح بالحلم الكردي.
المساهمون