أربعة أشياء عن الحرب

22 فبراير 2016
لوحة للفنان الكندي إريك سلوتسكي (Getty)
+ الخط -
1.
منذ اليوم الأول الذي تندلع فيه الحرب، تتوقف تمامًا عن هوايتك في تأمل السماء، وتبدأ بالتحديق في الأرض، أو في سقف حجرتك. تمشي في الشوارع مطأطئ الرأس. مجرد لمحة عابرة للسماء، تشعرك بألم في عينيك، كأن دزينة من الدبابيس تنغرس فيهما. ثوانٍ من النظر إليها، تشعر أنها ستهوي فوقك. سماء بلادك مُنهكة، ومُنتهكة. تأملها يُشعرك بلذعة الخوف في طرف لسانك وبرودة في أطرافك، كمنظر أصابع غليظة على وجه رجل مسن. في البيت تقضي ساعات طويلة تحدق في سقف الغرفة، وتبدأ بالتركيز على لون الطلاء المتقشر والانبعاجات والثريات. يقع نظرك على بقعة الرطوبة التي سبّبها التسرب من حمام جارك الساكن في الطابق الذي يعلوك، تتذكر أنه رفض بتعنت أن يقوم بإصلاح سباكة الحمام. كنت غاضبًا بشدة وعازمًا على الحديث معه بصرامة. وربما فكرت باستدعاء عدد من الجيران الأشداء ليكونوا معك للنقاش أو للعراك. بقعة الرطوبة لم تعد تكبر منذ أن بدأت الحرب، جارك مفقود منذ أشهر. آخر ما قيل عنه إنه كان ضمن ركاب حافلة ذهبت إلى منطقة تسيطر عليها جماعة مسلحة. وقيل أيضًا إنهم وجدوا جواز سفره، لكن من دون صورة شخصية مع جوازات أخرى في مبنى مهجور. قيلت أيضًا أشياء أخرى عنه، لكنك لا تريد أن تصدقها. تبكي بشدة من أجل كل شيء، من أجل جارك وأسرته، وبقعة الرطوبة التي لم تعد تكبر منذ رحيله. لكن السؤال الذي يعميك تمامًا: هل سيسقط هذا السقف فوقي يومًا؟.

2.
بعد مرور أشهر من الحرب، تنتبه إلى أن نظرك أصبح أضعف بربع درجة أو نصفها، أو أكثر من ذلك. تخمن السبب سريعًا، التصاقك بشاشة التلفاز أو "الموبايل" أو الجرائد يُفقدك حدة بصرك. تنتبه أيضًا إلى أن صفحات الأخبار تذكرك بلائحة الطعام في مطعمك المفضل، أو حتى غير المفضل. في المطعم تقرأ لائحة الوجبات وبجانب الاسم والسعر توجد صورة مصغرة للوجبة الشهية. لكنك لا تعرف شيئًا عما يدور في المطبخ؛ ما نوع الزيت؟ من غسل يديه قبل أن يغمسهما حتى الرسغ في أثناء إعداد "الكباب"؟ من عطس فوق "السلطة"؟ من تمنى لك شهية طيبة؟ ما نوع الملح وكميته؟ هل هذا لحم بقري أم لحم جارك الغائب؟ في صفحات الأنباء والمعلومات تجد الخبر وبجانبه صورة دقيقة وواضحة، ملخص مكثف وموجز، مكتوب بلغة دقيقة وخالٍ من الأخطاء النحوية، مضبوط على حسب "فهمك". لكنك لا تعرف ماذا يجري هناك في غرف الـ"عاجل" والـ"مهم". لا تعرف بماذا يفكر أمراء الحروب والمفاوضات، لا تعرف قذارة المطابخ الإعلامية والسياسية التي تدفع ثمنها من روحك ودمك ودمعك وعمرك، ودون بالطبع أن تعرف ثمن الأسلحة التي يُقتل بها وطنك المغدور.

3.
الحرب لا تدور في الخارج، الحرب "شيء" يعيش معك في البيت. هل تذكر قصص الجدات عن القرين القادم من العالم السفلي؟ عن تحذريهن لك من الوقوف مطولًا أمام المرآة حتى لا تخطفك "أم الصبيان" إلى الداخل وتلهو بك هي وأولادها؟. الحرب هي ذلك القرين الماورائي الذي طالما كذبت وجوده، ها هو الآن يحرق طعامك، ويسرق ملابسك من "حبل الغسيل"، ويشوش القنوات ويؤذي "عدة" الكهرباء ويأكل نصف طعامك حتى لو بسملت قبلها ألف مرة. الحرب كائن ينام بجوارك، ويتقيأ في جوفك، فتستيقظ بمزاج معكر مهما كانت ساعات نومك أو صحوك. الحرب تسحب الأوكسجين مهما قمت بتهوية المكان. الحرب كائن يعيش معك ويتنفس في أذنك بانتظام وبمتعة وبأنفاس دسمة وكريهة.

4.
مع مرور الوقت تتعلم، كونك "ابن حرب"، مهارات جديدة، منها أن تصبح مئات الأخبار والمعلومات وتقارير الفضائيات مجرد كلام مرصوص لا يعنيك في شيء، ولم يعد يُنبت فيك أملًا من أي نوع، أو أملًا في أي شيء جميل. تكتشف أن وقوع أمور عادية في ظروف غير عادية على الإطلاق، هو ما يبهج روحك ويمنح يومك دفعة حياة حتى لو استمرت لساعات أو دقائق فقط. كائنات" لا تُحتمل خفتها" هي التي تنقب عن أخبارها بكل اجتهاد: صوت بائع الغاز المتجول العائد بعد غياب. فتح فرع جديد لمطعم في حيٍ ما. خبر بدء الدراسة في معهد اللغة الكورية. أخبار الامتحانات ومنظر مجموعات الطلاب الذاهبين والعائدين من وإلى مدارسهم. وصول دفعة جديدة من شوالات الدقيق إلى المخبز المجاور. هذه الأخبار الحقيقية التي تفرحك، وهي التي تجعلك تحتمل الانتظار يومًا آخر حتى لو كان هذا اليوم ممتلئًا بأصوات القصف وهدير الرعود العسكرية. ولذلك فإن منظر لافتة "مغلق" فوق دكان كان عامرًا لسنوات، مُقبضٌ ومروّع كمنظر رضيع مضروب برصاصة في الجبين.
(كاتبة يمنية)
المساهمون