إنّه اليوم العالمي للأرامل. هؤلاء من أكثر الفئات تعرّضاً للتهميش والعزل، أمّا إساءة معاملتهنّ وأطفالهنّ فهي من أخطر انتهاكات حقوق الإنسان. في سورية، يكثر عددهنّ اليوم.
في كلّ يوم تفقد عشرات النساء السوريات أزواجهنّ نتيجة الحرب التي تطحن البلاد، ويبدأن بعيش واحدة من أصعب التجارب التي قد تمرّ بها امرأة في حياتها.. ألم الفقد وضغوط وقيود اجتماعية صارمة وتمييز ووصمة بلا سبب. وبدلاً من أن تجد الأرملة من يعينها ويساندها، تقع على من يراقبها أو يحاول استغلالها أو الضغط عليها. ويضاف إلى هموم الأرامل، الأمهات منهنّ، واجب تأمين دخل مادي لإعالة الأولاد وتربيتهم. علا وصفاء امرأتان شابتان عانتا في مجتمع متزمّت، بعدما ترمّلتا. هذه حكايتاهما.
علا... ترمّلت مرّتَين
تحكي هدى بحزن عن علا ابنة خالتها وصديقة طفولتها، وكيف فقدت صلتها بها. هي في مثل سنّها (25 عاماً) وتتحدّر مثلها من ريف مدينة إدلب. تعمل هدى، اليوم، في مدينة غازي عنتاب في تركيا، أمّا علا التي تتّبع أسرتها تقاليد متشددة تجاه الفتيات، فقد تركت دراستها وتزوّجت من ابن عمها. لكنّ الأخير توفي في غارات النظام على القرية، بعد أشهر عدّة من زواجهما.
تشير هدى إلى أنّ "علا يتيمة الأم، فيما يقاتل والدها وأخوها في إحدى الكتائب العسكرية. عقب وفاة زوجها الأوّل قررا تزويجها من مقاتل معهما. أخبرتني أنّها لا ترغب في ذلك، لكنّها لا تستطيع الرفض. كانت تبكي، طوال الوقت، وتقول إنّها لم تعد تشعر بالأمان وإنّهما يتاجران بها. عرفت مع زوجها الثاني حياة أشبه بالجحيم، قبل أن يتوفّى بعد نحو سنة في إحدى المعارك. وترمّلت مرّتَين في أقل من سنتَين. رأيتها في العزاء، كانت حاملاً وبدت وكأنّها تكبرني بعشر سنوات".
تتابع هدى "حين ولدت علا طفلها، كانت تعيش في منزل أخيها. كانوا يضيّقون عليها كثيراً، ثم عرضوا عليها الزواج الثالث. لم أصدّق كيف بات الأمر يحدث بهذه السهولة. عانت علا نفسياً مع اقتراب موعد عقد قرانها الثالث. قالت لي مرّة إنّها تريد أن تتبرّع بابنها لعائلة في تركيا، وفي أخرى إنّها تريد قتله، لأنّ موته أفضل من أن يعيش حياة كهذه. حاولت مساعدتها بتأمين فرصة لها للهروب مع طفلها إلى منزلنا في تركيا، لكنّ والدها اكتشف الأمر وحُبست في البيت ريثما تتزوّج. حاولت بعدها أن تنتحر، لكنهم أنقذوها. ومن ذلك الحين، لم أستطع التواصل معها. قطعوا كلّ الصلات بيننا. وأخيراً عرفت أنّها تزوجت".
تقول هدى: "كنّا نحلم أن نصبح مهندستَين معماريتَين. وكنت أخاف أن تحقّق نجاحاً أكبر من نجاحي في المستقبل. اتفقنا أن نتزوّج وننجب أطفالاً في أوقات متقاربة، حتى يلعبوا معاً. لكنّ ضريبة الحرب ندفعها جميعاً. لكنّ علا وكثيرات غيرها يدفعن ضريبة مضاعفة، ضريبة تخلّف المجتمع وظلمه. لا أصدق الحال الذي وصلت إليه".
صفاء... هرّبتها ضرّتها
لم يكن قد مضى سوى أسابيع عدّة على تلقّي صفاء (24 عاماً) من حلب، خبر مقتل زوجها أحمد تحت التعذيب في سجون النظام السوري، حتى أعلمها والدها وإخوتها أنّ أبو هاني صاحب محل البقالة المجاور تقدّم للزواج منها، وأنهم وافقوا وسوف تتزوّج بعد انتهاء العدّة. تقول: "حين اعترضت لأنّه متزوّج وأكبر منّي بكثير، وضعوني أمام الأمر الواقع وهدّدني أخي بأنّه سوف يعيدني إلى منزل أهلي كخادمة إن لم أتزوّج، رافضاً أن أعيش في منزل وحدي بعد الآن، خصوصاً أنّني كنت وحيدة طوال فترة اعتقاله ولم يكونوا راضين". تضيف: "لم أكن قد استفقت من صدمة موت أحمد. كيف يمكن أن أنساه بكبسة زرّ؟ لقد تزوجنا عن حبّ. وولدي مجد، لم أعرف كيف أضعه تحت رحمة رجل من أمثال أبو هاني".
وتذكر صفاء كيف أنّ "الجميع كان يعزّيني بوجود أرامل كثيرات غيري في حيّنا، وكيف كان بعضهم يطلب منّي ألا أخاف إذ إنّني سوف أجد ابن الحلال الذي يستر عليّ، فأنا ما زلت صغيرة. كلّ ذلك كان يرعبني، وشعرت بأنّ حياتي تحوّلت إلى جحيم في لحظة واحدة. لم تفلح كل محاولاتي لإقناع والدي وإخوتي ولا حتّى والدتي. في الحقيقة، كان وضعهم المادي صعباً وكانوا يخافون من تحمّل أعبائنا المادية".
في النهاية، جاء خلاص صفاء على يد شخص لم تتوقّعه. زوجة العريس. تقول: "قصدتني أم هاني. كنت خجلة منها كثيراً وأخبرتها أنّني لست موافقة على الزواج من زوجها. عرضت عليّ أن تؤمّن لي من يوصلني إلى تركيا بأمان وفرصة عمل في مشغل خياطة، إذ كنت أعمل في هذا المجال قبل الزواج". وهذا ما حدث. سافرت المرأة الشابة بمساعدة أخ زوجها المتوفي إلى تركيا وبدأت العمل هناك. تشير صفاء إلى أنّ "ما يحزّ في قلبي هو أنّ أهلي لم يقفوا إلى جانبي أو يساعدوني بعدما فجعت بأحمد. كان كلّ همهم ما يقوله الناس، ولو على حساب حياتي وحياة طفلي. كانوا يدّعون أنهم يريدون لي حياة كريمة وسترة. كانوا يستطيعون ذلك، من دون إجباري على هكذا زواج". وتتابع: "المضحك أنّني نجوت، لكنّ أبو هاني تزوّج من أرملة غيري. بالنسبة إليه وإلى أمثاله، زوجات الشهداء فرصة للزواج بتكاليف قليلة".