أدخن مع قاتلي

11 اغسطس 2015
لوحة للفنان التونسي عادل مقديش
+ الخط -
الأب والأم
الأب يتمشى في المستقبل.
الأم نائمة في الماضي.
عيناه أنبوبان زجاجيان، تنبثق منهما نظرة مستقيمة.
عيناها ساكنتان، لكن نظرتهما تتلوى.
اليقظة أب، والنوم أم.
***
آلة الزمن
ما الذي أحبه في القصص القصيرة؟
لا يقتصر الأمر على مهارة القاص في صناعة شخصياته، ومنحها عادات وطباعًا وملامح، ولا يتوقف عند حدود قدرته على استيلاد مفارقة ما، أو خلق معنى شعري؛ يمكن الوثوق فيه بعد القراءة الأولى، والارتياب فيه، قبل القراءة الثانية.
ليس هذا، فقط، ما يعطي القصة وزنها عندي.
تروق لي، إلى أقصى حد، عناية القاص بالزمن.
بينما تتحرك شخصياته، ثمة عقرب يدور بلا كلل، مطلقًا صدى وثباته القصيرة حولي.
القصة التي يعجز كاتبها عن إدارة زمنها، تفقد مقومًا جماليًا لا يمكن تعويضه. كيف تهب قصتك زمنها الخاص، أو - لأقل - ما نوع آلات الزمن التي تستخدمها في قصتك؟
أنا - القارئ - أراقب بطلك وهو يشعل سيجارة. أراقب يده وهي ترتحل ببطء من فمه إلى منفضة السجائر، مثل قطار بخاري صامت.
ورغمًا عني، أنظر داخل الحجرة، حيث يجلس:
قطع أثاث متراصة تحت إضاءة النهار، أصوات غامضة تخترق النافذة، فردتا حذاء، أعقاب سجائر حمراء على البلاط. لوحة مقلدة على الجدار تقطعها سفينة شراعية باتجاه الثلاجة. ظلال لا حصر لها، وخليط من الروائح يتشمّس قرب السرير.
عندما ألتفت الى بطلك، مجددًا، أراه يقلب سيجارته في المنفضة، فأهمس لنفسي: أليست السيجارة آلة زمن أيضًا؟
***
فكرة
مستلقيًا على ظهري،عيناي المشرعتان تمنحان السماء حدودها، مانعتيها من التمدد. عاليًا أحدّق، تاركًا نظراتي تنزلق على الأقواس الزرقاء، مطلقة صرخاتها السعيدة.
عود كبريت بين أسناني، يضيء ما في جمجمتي.
***
أدخن مع قاتلي
الرجل الذي يغمز بعينه، كأنه يحاول إخفاءها، لأن قطرة العرق السائحة توشك أن تعلق بين رموشه، يقول لك وهو يشعل سيجارتك، إنه يكره القاتل والقتيل.
لكنه يكره - أكثر من أي شيء - ما يقتتلان من أجله؛ هذه اليد الممدودة أبدًا، بينهما، التي تسمى الحياة.
يحدث الموت، لأن الحياة لا تتوقف الحدوث.
- أنا مع الموت.
يقول لك، وبينما هو يلعن الطقس، تواصل أنت النظر إليه بالطريقة نفسها.
هو ذا، لا يفصلك عنه سوى حائط من الدخان.
تنظر مليًا إلى رموشه المبللة، لا تريد أن ترفع بصرك عنه، فقد حظيت بفرصة لم يحظ بها شاعر من قبل:
أن تدخن مع قاتلك، وتتحدث معه عن الطقس والسجائر..
***
كائن
ذبابة وحيدة تتقلب في هواء الحجرة، تحط على أذني فأطردها، ثم على يدي، فأبعدها. أرجح أنها تشعر بالوحدة. أقول ذلك لنفسي حتى لا أطيل التفكير فيها. ولكنها تواصل اللعب، ناشرة طنينها المتقطع حول جمجمتي. طيب، عليّ أن أنساها، لكن ذلك لا يبدو ممكنًا، لأن الذبابة لا تحب أن يتجاهلها أحد.
عليه أن يقتلها أولًا.
***
حياة واحدة
أريد أن تساعديني على تفكيك الرموز.
الكتابة صغيرة جدًا على ورقة الدواء. وثمة أنواع لا أعرفها من البهار على رفوف النملية. أمس، دهنت جسدي بزيت الشعر، وشربت شايًا بنكهة غامضة.
العالم يخوض حربًا.
طائرات صائتة تلقي حمولاتها السامة على الحياة، أسفل النافذة. أشجار تئنّ وهي تحترق وحبال غسيل تفقد ذاكرتها. أعرف، من دون أن أنظر، وأسمع من دون أن تبلغني أناتها.
أما هنا، وراء النافذة، فثمة حرب من أجل حياة واحدة، صغيرة إلى درجة أنه يمكن حشوها في بنطلون بساقين نحيلتين وقميص مديام. حياة قليلة الألوان والأصوات.
أجد قطعة ثياب مضمخة بعطرك، وعندما أمدّ يدي نحوها تختفي. أجد عبارة ما في المطبخ، أو على الكنبة، أو على حافة النافذة، فأعرف أنها منك، أعرف ذلك من الطريقة التي تتملص بها من بين يدي وأنا أضعها بين عبارتين.
أحمل الأشياء بين ذراعي وأثبتها في أماكن أخرى. وحين أنظر إليها، في أوطانها المستحدثة، تبدو لي مريضة، أو مثلومة من خواصرها، كما لو أن اللغة نفسها قد فقدت مياه ركبتيها.
أضع الأشياء في أماكنها ببطء من يرى شروخًا في الزجاج، آملًا ألا يدفعها مزاج الهواء، أو العبث، نحو مصير لا عودة عنه، أو منه.
أضع اللوم على كتفي إلى الزوال. ولا أرجو أو أتوقع شيئًا من أحد.
أضع الحياة التي أعيش.. في ظلة، وأنظر إليها مشفقًا: يا لحياة قوامها إدامة الهدنة مع كل ما حولها.
المساهمون