أدب الصحراء بالمغرب، عواطف وجغرافيا

03 مايو 2016
الصحراء المغرب (دومينيك فاغيت/فرانس برس)
+ الخط -
تطور ما بات يُصطلح عليه بأدب الصحراء في المغرب، من إبداعات في فنون الرواية والشعر، كانت تتعلق بفضاء الصحراء وتصف تضاريسه الفريدة، وتمتح من تيمات الغزل والمدح والرثاء، ووصف النوق والجمال، مثلما فعل رائد الأدب الصحراوي الأول محمد بن الطلبة، تطور إذن، إلى أدب حديث ومعاصر، يزاوج بين الأصالة والمعاصرة.

ويُعزى اهتمام أدب الصحراء خلال عهد قريب بصورة شبه حصرية في تناول المواضيع العاطفية والوصف والاكتفاء بالديار والمجالس، والتركيز على ما هو محلي وجغرافي، يعزى كل ذلك إلى الاستعمار الإسباني أساسًا، الذي أثّر في الأدب الصحراوي ورحابته، بأن وضع حدودًا مصطنعة بين الأقاليم الصحراوية وباقي مناطق المغرب، إلى أن انجلى الاحتلال في أواسط السبعينات.

من الانغلاق إلى الانفتاح

ويرى الدكتور عباس الجيراري، أديب وباحث ومؤرخ، أن أدب الصحراء تجاوز تلك المرحلة التي كان فيها منغلقًا على نفسه، لعوامل جغرافية وتاريخية وجيوسياسية، حيث إنه فك أغلال الانعزال والركون إلى الجمود، والبقاء في دائرة جغرافية محدودة، خاصة فن الشعر الذي تميّز به أدباء الصحراء وأديباته.
ويؤكد الجيراري، في إحدى دراساته حول الشعر في الصحراء المغربية، أن "شعر الصحراء أداة وحدة ووسيلة تواصل، ولم يكن في يوم ما شعرًا منعزلًا أو منغلقًا يتحرك في بيئته فقط، لكنه كان دائمًا يمد يده إلى أطراف الوطن ليندمج فيه وينصهر داخل بوتقته، في عملية أخذ وعطاء مستمرين".

ولا يخفي الجيراري أن "الطبيعة الصحراوية كان لها تأثير على الشعراء، وعلى تشكيل عالمهم الشعري وتوضيح فضاء لا حدود لآفاقه وأبعاده، من أطراف مترامية وكثبان رملية وجبال صخرية، بما يصاحب ذلك كله من رياح وعواصف وما تخلّفه من أصوات وأصداء، كما أن هذه الطبيعة أفضت إلى صفاء في الذهن وصدق في الوجدان وتلقائية في التعبير".
وعلاوة على هذا العامل الجغرافي المهم، يضيف الجيراري، "فإن أدباء الصحراء كانوا مؤهلين كذلك بحكم الثقافة التي كانت منتشرة بينهم، التي تركز على القديم، وتُعنى بدواوينه يحفظها طلاب الأدب ويستظهرونها في المجالس ويرددون أراجيزها وقصائدها بعفوية وسهولة، مما أتاح للشعراء أن يحيوا النماذج الجيدة من هذا التراث ويحاكوه".

ثيمات الأدب الصحراوي

ومن جهته، يعتبر مصطفى لغتيري، المؤلف والأديب المغربي، أنه "لا يمكن مقاربة الكتابات الأدبية لأديبات وأدباء الصحراء إلا من خلال علاقتها الوثيقة بالأدب المغربي ككل، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ منه، ثم من خلال خصوصيتها كأدب نما في أحضان بيئة خاصة، تختلف عن باقي بيئات المغرب الذي يتميّز بتنوعه الجغرافي والثقافي واللغوي".

واعتبر لغتيري أنه من حيث علاقته بالأدب المغربي ككل، فالأدب في الصحراء قد تناول أهم الثيمات التي تناولها الأدباء المغاربة عبر التاريخ، إذ كان هناك دومًا الهم الوطني حاضرًا من خلال طرح ثيمة الاستعمار الإسباني للمنطقة ومحاربته من قبل الوطنيين، الذين اشتهرت أعمالهم مثل الهيبة ماء العينين، والاهتمام بهموم الطبقات الاجتماعية غداة الاستقلال في ظل مجتمع عانى ويعاني من أجل الانعتاق من ربقة التخلّف والتوزيع غير العادل للثروة.
واهتم أدب الصحراء أيضًا، يردف لغتيري، بما يطلق عليه "سنوات الرصاص" التي كان فيها الصراع على أشده ما بين الأحزاب اليسارية والنظام، من أجل ترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، فنالت الأقاليم الصحراوية نصيبها من هذا الصراع وانعكس أثره في كتابات مبدعيه، مثل ما يجد المتتبّع في الكتابات القصصية للأديبة الصحراوية البتول المحجوب.


خصوصيات أدب الصحراء

وأما بالنسبة لما يمكن عدّه نوعًا من الخصوصية في ما يتعلق بأدب الصحراء، يسجل لغتيري أولًا حضور فضاء الصحراء بقوة في هذه الكتابات، فتنبسط الرمال أمام القارئ، مشكّلة فضاءً تضطرب فيه الكائنات في هذا الوسط "البكر" المغري بكائناته وطريقة الحياة فيه، وحين يقرأ الجمهور لمحمد باهي حتمًا سينبهر أمام الثراء الباذخ للصحراء ثقافة وإنسانًا وبيئة، إذ يجد نفسه أمام ثقافة عميقة ومتميّزة ومعتزّة بانتمائها للوطن.

ويتابع مؤلف العديد من الروايات والقصص، بأنه أيضًا يمكن الحديث عن الشعر كأبرز الأجناس الأدبية حضورًا في الصحراء، و"خاصة من خلال "اللهجة الحسانية" المنتشرة في المنطقة، التي تتميّز بقربها الكبير من اللغة العربية الفصحى أكثر من الدارجة المغربية، وبجرسها الصوتي الخاص، الذي يجعلها لغة منغّمة".

واستطرد لغتيري بأن "هذا ربما ما يجعل الشعر في تلك المناطق المحتفية بخصوصيتها طقسًا يوميًا، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحياة اليومية للإنسان الصحراوي، الذي يعد الشعر الحساني ديوانه يوثّق فيه شجرة أنسابه وتاريخ منطقته وعاداتها، كما يعد سجلًا حيًا لأفراحه وأتراحه".
وسجل صاحب رواية "ابن السماء" أن شعر المناطق الصحراوية بالمغرب يتميّز بوفرة الأمثال التي ترصّعه، وكأن الصحراء لا يمكن إلا أن تنقل حكمتها إلى شعرائها، فتجعلهم يتنافسون في تأثيث أشعارهم بها، وخاصة في ما يتعلق بالشعر المكتوب باللهجة الحسانية"، وفق تعبيره.

أديبات "التبراع"

وضمن الشعر الصحراوي بصيغة الأنثى، يحضر بشكل طاغٍ، صنف شعري طريف ومثير، يسمى "التبراع"، ويعني الغزل بالرجال، وغالبًا ما تلقي هذا الشعر الذي يكون نسائيًا محضًا، وباللهجة الحسانية، شاعرة مجهولة لا تفصح عن هويتها واسمها إلا نادرًا، وذلك بالنظر إلى جرأة هذا الصنف من الشعر وحميميته.
ووفق الناقدة والباحثة الصحراوية، الدكتورة العالية ماء العينين، فإن "التبراع" قيل في بدايته من طرف امرأة مجهولة، وأنه لا ينسب لشخص معيّن، ما يجعله شعرًا تراثيًا إنسانيًا تم تناقله شفويًا عبر أجيال من أشخاص مجهولين"، موضحة أن عددًا من قصائد "التبراع" تندرج في غالب الأحيان ضمن الحالات العاطفية الأقرب إلى العذرية.

واعتبرت ماء العينين أنه بواسطة "التبراع" تتحرر المرأة من مراقبة المجتمع وسلطته، لأن القائلة مجهولة، لذلك فهي بعيدة عن المحاسبة وعصيّة على القيود، مبرزة أن هذا ما يفسّر أن "بعض تلك القصائد يتميّز بالجرأة أحيانًا واقتحام مناطق محرّمة قد تعرّض صاحبتها للسخط الاجتماعي والإقصاء".
وترى الباحثة أن شعر "التبراع" تمكّن من تجاوز المحلية والخصوصية التي احتمى بها سنوات طويلة، وأضحى يواكب التحولات الحاصلة في المجتمع الصحراوي، كما بات متأثرًا ومؤثرًا في لغات وثقافات أخرى جعلت من الصحراء فضاءً خصبًا لها، وأضحى التبراع يستعين هو بدوره بمعان ومصطلحات مقتبسة من لغات ولهجات خارج الصحراء.

المساهمون