22 نوفمبر 2024
أخطاء الإسلاميين... القراءة المُبتَسرة
ثمَّة قراءة سائدة اليوم مفادها بأن أخطاء الإسلاميين، في مرحلة ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي"، مسؤولة، إلى حد كبير، عن ارتكاس الوضع العربي إلى حالٍ أكثر سوءاً مما كان عليه قبل ذلك "الربيع". وحسب هذه القراءة، فإن مقاربات الإسلاميين السياسية، وسطحية استيعابهم طبيعة التحديات، ونزوعهم نحو الهيمنة، وتهميش الآخرين من غير لونهم الإيديولوجي، وعجزهم عن إدراك معطيات المعادلة، كلها عناصر ساهمت في استعادة النظام القمعي العربي زمام المبادرة من جديد، وسحق آمال الحرية والكرامة التي استظهرها "الربيع العربي" واستبطنها. وعلى الرغم مما تحمله هذه القراءة من بعض صحةٍ في بعض جزئياتها، غير أنها تمثل قراءةً مشوّهة، وفي أحيان كثيرة، متعمدة، بهدف تبرئة الذات، وإلقاء اللوم كله على الإسلاميين، وتحديدا "الإخوان المسلمين" الذين أصبحوا مشجباً تعلق عليه كل خطيئة ورزية وفشل.
ارتكب الإسلاميون، وفي مقدمتهم "الإخوان"، أخطاء كبيرة في التعاطي مع سنوات "الربيع العربي"، وهم مسؤولون، إلى حد كبير، عمّا آلَ إليه الوضع العربي اليوم. ومن أخطائهم الواضحة، أنهم انساقوا، بدافع القلق من محاولات "الدولة العميقة" إعادة إنتاج نفسها ودورها، نحو المغالبة، على الرغم من أنهم رفعوا شعار المشاركة. وبدافع آخر من الخوف على الثورة، ومحاولة حمايتها من ألاعيب أدوات "الدولة العميقة"، كما في مصر، انتهى الأمر بالإخوان أن يكونوا وحدهم في الميدان، بعد أن انفضّ عنهم شركاء الأمس، وبالتالي، سَهُلَ أمر تقويض الثورة، وسحقها على أيدي الثورة المضادة. أيضا، ما من شك في أن الإسلاميين، وتحديداً في السياق المصري، عجزوا عن استيعاب تعقيدات المشهد ومآلاته، خصوصا مع تَكَثُّفِ جهود "الدولة العميقة" لإحراج الرئيس محمد مرسي وإضعافه، ثمَّ الانقلاب عليه. وقد ساهم بعض خطاب الإسلاميين، إخواناً كانوا أم غير ذلك، بما في ذلك خصومهم في حزب النور السلفي، عن أسلمة الدولة والحياة، ومحاولة الإخلال بالتوازنات المجتمعية المدنية، في تأليب قوى سياسية كثيرة عليهم، الأمر الذي انتهى بضربةٍ لروح التغيير كلها في المنطقة.
تلك بعض أخطاء الإسلاميين التي اعترف "الإخوان" في مصر بكثيرٍ منها، وسبق أن حذّر منها، غير مَرَّة، مفكّرون إسلاميون، في مقدمتهم الشيخان راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو من تونس. غير أن اختزال كل المشهد الآسن اليوم، وإلقاء اللوم فيه على الإسلاميين وحدهم، يَحْتَمِلُ من انعدام الموضوعية الأمر الكثير.
بداية، تنطوي هذه القراءة المُبْتَسَرَة على سذاجةٍ تستبطن تبرئة للنظام القمعي العربي، وتظهره، بقصد أم غيره، وكأنه تدخل بشكل "بطولي"، بهدف إنقاذ الدولة الوطنية القُطرية التي كانت على وشك الانهيار، جرّاء سياسات الإسلاميين. رأينا ذلك في مصر، عندما تحالفت تيارات ليبرالية ويسارية وقومية، بل وإسلامية كذلك، مع المؤسسة العسكرية للانقلاب على رئيسٍ منتخبٍ بشكل ديمقراطي، وتحول هؤلاء، ومعهم المؤسستان الدينيتان الرسميتان، المسلمة والمسيحية، ممثلتين بالأزهر والكنيسة القبطية، إلى أدوات عند العسكر في تقويض ثورة مصر وخنقها.
تابعنا، جميعا، رموزا، كانت يوماً توصف بـ"الثورية"، تنزل إلى الشارع، وتوظف أصواتها
وأقلامها للهتاف بحياة المؤسسة العسكرية، مستدعين انقلابها على ديمقراطيةٍ وليدة ناشئة، فانتهى الحال، بالجميع، تحت حذاء العسكر، بعد أن ظنوا أن مقاسه صمم خصيصاً على حجم "الإخوان". وعلى من أراد التأكد أن يراجع محمد البرادعي، وحمدين صباحي، وعلاء الأسواني، وحركة 6 أبريل، وحزب النور.. إلخ. كما أن في تنازل نظام عبد الفتاح السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير للملكة العربية السعودية، من دون استفتاء شعبي، ولا حتى نقاش في مجلس النواب المصري، المصنوع على عين، ما يغني عن مزيد تفصيلٍ في تغييب الإرادة الشعبية ودورها. دع عنك، طبعا، فشل نظام الانقلاب العسكري، في كل صعيد وعلى كل جبهة. فمصر اليوم دولة منهارة اقتصادياً، على الرغم من ضخ عشرات مليارات الدولارات الخليجية فيها، كما أن الفساد لا زال ينخرها، والإرهاب يتصاعد، والقمع والكبت أسوأ مما كانا عليه في ظل نظام حسني مبارك.. إلخ.
يقدم الأردن نموذجاً آخر لتحميل الإسلاميين أوزار فشل مرحلة "الربيع العربي"، وإلصاق كل نقيصة بهم. فخلال سنوات "الربيع" اتهم "الإخوان" في الأردن، من يساريين وقوميين وآخرين، بأنهم لم يتخلوا عن مهادنة النظام، وبأن مطالبهم بالإصلاح ليست جذرية بالشكل الكافي. وعندما استعاد النظام زمام المبادرة فيما بعد، ووضع "الإخوان" في دائرة استهدافه، انقلب مزايدو الأمس إلى شامتي اليوم، بل وإلى مؤيدي الحملة عليهم، لإخراجهم عن الشرعية، ومنع نشاطهم في الأردن. واليوم، يبعث النظام رسالة إلى الجميع، عبر تعديلات دستورية اقترحتها الحكومة لتركيز صلاحياتٍ كثيرة بيد الملك بشكل منفرد، بأن زمن "الدلال" انتهى، وأن مطالب الإصلاح لم يعد مسموحاً لها بالتعبير عن نفسها، ولن يتمّ التسامح بشأنها، كائناً من يطرحها.
باختصار، استهداف الإسلاميين، وتحديداً الإخوان المسلمون، من نظام "الدولة العميقة" العربي، لم يأت بسبب أخطائهم في التعامل مع "مرحلة الربيع العربي"، بقدر ما أن هذا الاستهداف يجيء في سياق كسر شوكة أكثر التنظيمات السياسية العربية أثراً، وأكبرها حجماً. وبالتالي، إن توجيه ضربة قاصمة لهم يعني إضعافاً لأي فرصة مستقبلية لانطلاق "ربيع" عربي آخر. يقدّم النظام القمعي العربي الإسلاميين "فزّاعة"، بهدف امتصاص الأوكسجين من روح الثورة العربية ككل، والدور آتٍ على الجميع، ذلك أنه لن يسمح لبديل آخر أن ينضج بعد اليوم، ولا لرأسٍ جديد أن يرفع. هذا لا يعني أن الثورات المضادة لم تستفد من أخطاء الإسلاميين في سنوات الثورات، لكن تلك الأخطاء كانت مبرّراً، لا منشئاً، للردة على مطالب الإصلاح والتغيير.
كلمة أخيرة، تحميل الإسلاميين كل الرزايا والخطايا التي رافقت ذروة الثورات العربية محاولة رخيصة لتبرئة نظام القمع العربي، ومحاولة بائسة لإخلاء ذمم قوى أخرى، مارست من الأخطاء الكارثية ما أوصلنا إلى القاع الذي نحن فيه اليوم.
ارتكب الإسلاميون، وفي مقدمتهم "الإخوان"، أخطاء كبيرة في التعاطي مع سنوات "الربيع العربي"، وهم مسؤولون، إلى حد كبير، عمّا آلَ إليه الوضع العربي اليوم. ومن أخطائهم الواضحة، أنهم انساقوا، بدافع القلق من محاولات "الدولة العميقة" إعادة إنتاج نفسها ودورها، نحو المغالبة، على الرغم من أنهم رفعوا شعار المشاركة. وبدافع آخر من الخوف على الثورة، ومحاولة حمايتها من ألاعيب أدوات "الدولة العميقة"، كما في مصر، انتهى الأمر بالإخوان أن يكونوا وحدهم في الميدان، بعد أن انفضّ عنهم شركاء الأمس، وبالتالي، سَهُلَ أمر تقويض الثورة، وسحقها على أيدي الثورة المضادة. أيضا، ما من شك في أن الإسلاميين، وتحديداً في السياق المصري، عجزوا عن استيعاب تعقيدات المشهد ومآلاته، خصوصا مع تَكَثُّفِ جهود "الدولة العميقة" لإحراج الرئيس محمد مرسي وإضعافه، ثمَّ الانقلاب عليه. وقد ساهم بعض خطاب الإسلاميين، إخواناً كانوا أم غير ذلك، بما في ذلك خصومهم في حزب النور السلفي، عن أسلمة الدولة والحياة، ومحاولة الإخلال بالتوازنات المجتمعية المدنية، في تأليب قوى سياسية كثيرة عليهم، الأمر الذي انتهى بضربةٍ لروح التغيير كلها في المنطقة.
تلك بعض أخطاء الإسلاميين التي اعترف "الإخوان" في مصر بكثيرٍ منها، وسبق أن حذّر منها، غير مَرَّة، مفكّرون إسلاميون، في مقدمتهم الشيخان راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو من تونس. غير أن اختزال كل المشهد الآسن اليوم، وإلقاء اللوم فيه على الإسلاميين وحدهم، يَحْتَمِلُ من انعدام الموضوعية الأمر الكثير.
بداية، تنطوي هذه القراءة المُبْتَسَرَة على سذاجةٍ تستبطن تبرئة للنظام القمعي العربي، وتظهره، بقصد أم غيره، وكأنه تدخل بشكل "بطولي"، بهدف إنقاذ الدولة الوطنية القُطرية التي كانت على وشك الانهيار، جرّاء سياسات الإسلاميين. رأينا ذلك في مصر، عندما تحالفت تيارات ليبرالية ويسارية وقومية، بل وإسلامية كذلك، مع المؤسسة العسكرية للانقلاب على رئيسٍ منتخبٍ بشكل ديمقراطي، وتحول هؤلاء، ومعهم المؤسستان الدينيتان الرسميتان، المسلمة والمسيحية، ممثلتين بالأزهر والكنيسة القبطية، إلى أدوات عند العسكر في تقويض ثورة مصر وخنقها.
تابعنا، جميعا، رموزا، كانت يوماً توصف بـ"الثورية"، تنزل إلى الشارع، وتوظف أصواتها
يقدم الأردن نموذجاً آخر لتحميل الإسلاميين أوزار فشل مرحلة "الربيع العربي"، وإلصاق كل نقيصة بهم. فخلال سنوات "الربيع" اتهم "الإخوان" في الأردن، من يساريين وقوميين وآخرين، بأنهم لم يتخلوا عن مهادنة النظام، وبأن مطالبهم بالإصلاح ليست جذرية بالشكل الكافي. وعندما استعاد النظام زمام المبادرة فيما بعد، ووضع "الإخوان" في دائرة استهدافه، انقلب مزايدو الأمس إلى شامتي اليوم، بل وإلى مؤيدي الحملة عليهم، لإخراجهم عن الشرعية، ومنع نشاطهم في الأردن. واليوم، يبعث النظام رسالة إلى الجميع، عبر تعديلات دستورية اقترحتها الحكومة لتركيز صلاحياتٍ كثيرة بيد الملك بشكل منفرد، بأن زمن "الدلال" انتهى، وأن مطالب الإصلاح لم يعد مسموحاً لها بالتعبير عن نفسها، ولن يتمّ التسامح بشأنها، كائناً من يطرحها.
باختصار، استهداف الإسلاميين، وتحديداً الإخوان المسلمون، من نظام "الدولة العميقة" العربي، لم يأت بسبب أخطائهم في التعامل مع "مرحلة الربيع العربي"، بقدر ما أن هذا الاستهداف يجيء في سياق كسر شوكة أكثر التنظيمات السياسية العربية أثراً، وأكبرها حجماً. وبالتالي، إن توجيه ضربة قاصمة لهم يعني إضعافاً لأي فرصة مستقبلية لانطلاق "ربيع" عربي آخر. يقدّم النظام القمعي العربي الإسلاميين "فزّاعة"، بهدف امتصاص الأوكسجين من روح الثورة العربية ككل، والدور آتٍ على الجميع، ذلك أنه لن يسمح لبديل آخر أن ينضج بعد اليوم، ولا لرأسٍ جديد أن يرفع. هذا لا يعني أن الثورات المضادة لم تستفد من أخطاء الإسلاميين في سنوات الثورات، لكن تلك الأخطاء كانت مبرّراً، لا منشئاً، للردة على مطالب الإصلاح والتغيير.
كلمة أخيرة، تحميل الإسلاميين كل الرزايا والخطايا التي رافقت ذروة الثورات العربية محاولة رخيصة لتبرئة نظام القمع العربي، ومحاولة بائسة لإخلاء ذمم قوى أخرى، مارست من الأخطاء الكارثية ما أوصلنا إلى القاع الذي نحن فيه اليوم.